الأربعاء، 1 أبريل 2015

علاقتي مع الدكتور محمد عابد الجابري :المحطة الخامسة في حياة المفكر العربي الاستاذ جورج طرابيشي


علاقتي مع الدكتور محمد عابد الجابري :المحطة الخامسة في حياة المفكر العربي الاستاذ جورج طرابيشي *
<< الجمعة، 6 مارس/آذار، 2015
     
ست محطات في حياتي
جورج طرابيشي





في المحطّة الخامسة من حياتي سأتوقف عند عن علاقتي بـالراحل  محمد عابد الجابري  الّذي كرست له ربع قرن من عمري.
كنت منذ عام 1972 قد انتقلت إلى بيروت لأتولى رئاسة تحرير مجلة «دراسات عربيّة» الشهرية التي كانت تصدر فيلبنان عن دار الطليعة. وكان الجابري قد بدأ يرسل إليّ في مطلع الثمانينات بعض المقالات لنشرها  في المجلة. ثمّ أرسل كتاباً إلى دار الطليعة عنوانه «تكوين العقل العربــي»، الجزء الأوّل من مشروع «نقد العقل العربـــي». وقد أعطاني صاحب الدار الرّاحل بشير الداعوق المخطوط قائلاً لي: أنظر في هذا الكتاب فأنت أفهم مني في التراث. قرأت الكتاب وقلت له: هذا كتاب مدهش، أُنشره فوراً.  نشره طبعاً. ولكنّي في أثناء ذلك كنت أخذت قراري- وقد تعبت من الحرب الأهليّة اللبنانية - بالهجرة من بيروت إلـــى بـاريس للعمل في مجلة «الوحدة «.
وأنا أودّع الدّار و أودّع زملائي وأودّع بشير الداعوق، كان صدر كتاب « تكوين العقل العربي»، وكان هو الكتاب الوحيد اللّذي حملته معي من بيروت إلى باريس مع معجم  سهيل إدريس «المنهل». لم أحمل من كتب مكتبتي الخمسة آلاف غير هذين الكتابين.
جئت باريس  وقعدت في بيتي شبه الفارغ أقرأ هذا الكتاب مرّة ثانية، مسحوراً به سحراً كاملاً. وكان أوّل مقال كتبته في مجلّة «الوحــدة» عن هذا الكتاب. وبادرت أكتب بالحرف الواحد- يعرف هذه القصة عدد ممن قرؤوا سيرة حياتـي-: «إنّ هذا الكتاب ليس فقط يثقّف بل يغيّر، فمن يقرأه لا يعود  بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه». بمثل هذه الحماسة كتبت عرضاً عن الكتاب في مجلّة «الوحدة». ولكن كانت هناك نقطة تفصيلية صغيرة في الكتاب أثارت عندي بعض الشكوك وتتعلق بموقف الجابري من «إخوان الصفاء». فمن دراستي الجامعيّة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق كانت تكونت عندي  فكرة عامة عن انتماء إخوان الصفاء إلى  العقلانية الفلسفية الإسلامية. والحال أن الجابري كان قال كلاماً سلبياً للغاية عن إخوان الصفـــــاء ناسباً إياهم الى « العقل المستقيل في الإسلام»، ومؤكداً أنهم  وقفوا ضدّ العقل، وضدّ الفلسفة، وضدّ المنطق، وضد صاحب المنطق الذي هو أرسطو .هكذا ارتسم عندي شكّ يتعلق بهذه النقطة تحديداً، وما كان في إمكاني أن أحسمه لأن رسائل اخوان الصفاء لم تكن متوفرة لي في مهجري الباريسي.
ثم شاءت الظروف أن أسافر إلى إحدى دول الخليج في دعوة لندوة. في ذلك البلد الخليجي قلت في نفسي إني  سأبتاع رسائــــــل إخوان الصفاء لحسم تلك المسألة. ذهبت إلى مكتبة كبيرة  هناك وسألت المستخدم: عندك كتاب «إ رسائل خوان الصفاء»؟ فقال بلهجة لا تخلو من غرابة: لا يا أستاذ. قلت له: وأين يمكنني الحصول عليه ؟ قال: أستاذ، أنت تعرف أنّ هذا الكتاب هو في الفلسفة؟ قلت له:نعم. قال: إن كتب الفلسفة ممنوعـــة  هنا . وكانت هذه أول مرة أسمع فيها أن كتب الفلسفة محرّمة، وفيمـا بعد اكتشفت أنها ليست ممنوعة فقط في تلك الدولة  الخليجيّة ، بل في معظم دول الخليج. قلت لـلمكتبي: آسف، أنا والله ما كنت أدري. ومن كلمة إلى كلمة بدأت أتناقش معه ودياً وقلت له: أنا لازمني الكتاب، فماذا أفعل؟. قال: هناك مكتبة أخرى. ودلّني على اسمها وعنوانها وقال: علّ وعسى يكون لديها.
ذهبت الى المكتبة الثــــانية و سألت المكتبي عن الكتــــاب. وبالطبع أتاني نفس الجواب، فقلت له: ولكن اسمح لي أعرّفك بنفسي :أنا كاتب ومترجم اسمي «جورج طرابيشي» . وبمجرّد أن قلت له جـــــورج طرابيشي، قال: أهلاً وسهلا ًوراح  يعرّفني  على ما هو موجود من كتبي وترجمـاتي لديه. ثم أضاف: اسمح لي. ودخل واستدعى رئيسه صاحب المكتبة، فقال هذا: أهلاً وسهلاً أستاذ جـــورج. ورحّب بي، إلخ. رويت له حاجتي الى الكتاب لأنه غير المتوفر لي بباريس  ولا أستطيع أن آتي به من لبنان بسبب ظروف الحرب الأهلية،إلخ. قال: والله يا أستاذ أما تعرف أن هذه الكتب  ممنوعة؟  قلت له: عرفت ولكن لعلّ وعسى تســـــاعدني. قــال: تفضّل معي. نزل معي إلى قبو تحت الأرض فـــإذا فيه صناديق وكتب أخرى، وأخرج أربعة أجزاء كبيرة لإخوان الصفاء، قال: تفضّل أستاذ . و لم يشأ أن يأخذ ثمنها ولكني أصررت ودفعت شاكراً إياه كل الشكر.
 وأنا في طائرة العودة  ثم في البيت كان أوّل همي أن أعثر عــلى النّص الّذي   يقول عنه الجابري إن إخوان الصفاء يقفون فيه ضدّ المنطق وضد أرسطو وضدّ الفلسفة.
فتحت الجزء الرابع  من الرسائل أفتش عن النص كما يشير اليه الهامش الذي يحيل اليه كتاب «نقد العقل العربي» فلـــــم أجده، فتشت وفتشت ثم قلت في نفسي: لعله خطأ مطبعي ويجب ان أعيد قراءة الرسائل الواحدة والخمسين كلها. وهكذا بدأت بقراءة كتاب رسائل إخوان الصفا   بأجزائه الأربعة فإذا بي أصل إلـــــى الرسائل 10-11-12-13-14 ، فكانت دهشتي عظيمة. ففي هذه الرسائل الخمس، و بعدما قدّموا وعرّفوا بأنفسهم، يقولون ما خلاصته: يـــا أخي، أيّدك الله وإيّانا بروح منه، اعلم ، بعدما شرحنا لك أهدافنا، أنّه لا مدخل لك إلينا إلاّ بواسطة المنطـــق لأنّه هو المعبر الّذي يجعل الخطاب بيننا ممكناً، فتعالَ نشرح لك المنطق وكتبه. ثم  يخصّصون الرسائل 10 إلى14 لشرح كتب  المنطق الأرسطي مثل العبارة والمقولات و والقياس والبرهان ، ويستعملون العبارات بلفظها اليوناني مثل أنالوطيقا وقاطيغورياس، إلخ .
فيما أنا أطالع هذه الرسائل الخمس في الشرح المفصل للمنطق الأرسطي كنت أتساءل بيني وبين نفسي:  كيف يقول الجابري إن إخوان الصفا  قاطعوا أرسطو؟ وقاطعوا المنطق؟ وقالوا: إن الإنسان ليس بحاجة إلى المنطق وإلى الفلسفة ؟ وعدت من جديد إلى متابعة قراءة الرسائل إلى أن وقعت في الرسالة السابعة عشرة المعنونة: في علل اختلاف  اللغات على النص الذي يتخذ منه الجابري دليلاً  علن أن إخوان الصفاء قالوا إن الإنسان ليس بحاجة الى المنطق. والحال ماذا يقول النص؟                                                                                                            فحواه كالتالي: لقد تقدم بنا الكلام في أوائل رسائلنا على أهمية  المنطق لفهمنا وفهم لرسائلنا. ولكن اعلم يا أخانا أنّ المنطق منطقان. هناك منطق فلسفي حدّثناك عنه، وهناك منطق لفظي أي الكلام، لأنّه لولا الكلام لما تفاهم البشر فيما بينهم. وبعد أن يشــرحوا دور اللغة  كأساس وكوسيلة للتفــاهم بين البشر يضيفون: اعلـــم أن هناك نفوساً صــافية غير محتاجة للكلام ولا للمنطق في إفهام بعضها بعضاً، أي هناك نفــوس روحانية تتفاهم بالعين، تتفاهم باللّمس، تتفــاهم بالروح، بالوجدان، بالتخاطر كما بتنا نقول اليوم، بدون أن تكون بها حاجة للمنطق اللفظي والكلام. فإذا بالجــــابري استغلّ هذه الجملة « ليست بحاجة إلـى منطق» ليحذف كلمة اللفظي وليقول إنّ هؤلاء ضدّ المنطق بمعناه الفلسفي. ثمّ  لم ألبث أن وقعت علــى الشّاهد التّالي وهو في معرض  نقاش  إخوان الصفاء حول ما  بين الدين والفلسفة  من علاقة  يريد المتزمتون  في عصرهم ( القرن الرابع للهجرة) فصمها ويدعون إلى تحريم الفلسفة باسم الدين. يقول الشاهد بالحرف الواحد: «اعلم أيّهــــا الأخ البــار، أيّدك الله بنور منه، أنّ من عرف أحكام الدّين فإنّ نظره في علم الفلسفة لا يضرّه بل يزيده فـــي علم الدّين تحققاً وفي فهم المعاني استبصاراً». ثم  ثمّ يضيف القول: «المنطق ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف. ولمّا كـانت الفلسفة أشرف الصنائع على البشرية بعد النّبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصحّ المــــوازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات ونسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات  مثل صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ».
إني لمّا قرأت هذه الرسالة وهذا الشاهد أصبت بصدمة كبــيرة وبطعنة في كبريائي كمثقف، لأنّي كتبت في ما كتبت عن كتاب الجـابري: « هذا الكتاب من يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه».
ومن ذلك اليوم لم أعد أوجّه لومــــــي إلى الجــــــابري، بل إلى نفسي، لأنّني حكمت على كتاب في  موضوع لم أكن أملك كلّ مفاتيحه المعرفية.وأقسمت بينـــي وبين نفســــي أني بعد الآن لن أقول شيئاً  أو أصدر حكماً بدون أن أكون مستوثقاً من كلّ المعلومات بصدده. وهكذا أخذت قراري بإعادة تربية نفسي، و إعادة تثقيف نفسي. وهكذا انكببت، أنا الذي درست اللغة العربية والتراث العربي جزئياً في الجامعة، انكباباً مرعباً علــى قراءة كتب التراث وعلــــى مطالعة عشرات وعشرات المراجع الّتي ذكرها الجــــابري والّتــي رحت أدقق كلّ شاهد من شواهدها  وأتحقّق من صحّتها فــــي كلّ المجالات. وبصراحة أقول لكم: لم يكن شاهد إخوان الصفاء بالشاهد الوحيد ، بل  وقعت على عشــرات وعشرات من الأمثلة علـــى مثل هذا التزوير الّذي أوقع فيه الجابري عن قصد أو عن غير قصد- لا أدري- قراءه وأنا منهم.
وإني لأقولها صراحة اليوم : إني أعترف  للجــابري، الّذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه  ومئات المراجع في التراث الإسلامي ومن قبله المسيحي ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقرّ له، وأعترف أمامكم، أنّه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني علـــى إعادة بناء ثقــافتي التراثية . فأنـــا له أدين  بالكثير رغم كلّ النقد الّذي وجّهته إليه.

*عن جريدة الدستور (وبتصرف ) http://addustour.com/sn/985173/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تقديم الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف* لكتاب الاستاذ جاسم عبد شلال النعيمي الموسوم ( رجال ونساء الخدمات المجتمعية في الموصل خلال العهد العثماني )

                          الاستاذ جاسم عبد شلال النعيمي يهدي الدكتور ابراهيم  خليل العلاف عددا من مؤلفاته المنشورة      تقديم  الاستاذ الدكت...