الأحد، 5 أبريل 2015

الشاعر سامي مهدي في مختاراته بقلم : الاستاذ الدكتور سعيد عدنان

الشاعر سامي مهدي في مختاراته
بقلم : الاستاذ الدكتور سعيد عدنان
كلية التربية -جامعة القادسية
صناعة المختارات شيء عرفه الأدب العربيّ القديم، وعرفته الآداب الأخرى؛ وكأنّه أمر لا بدّ منه إذا ما تمّ كيان الأدب، وكثرت آثاره، واتسع ميدانه لمن يريد أن يختار منه. فكان منها في الأدب العربيّ؛ المعلّقات، والمفضليّات، والأصمعيّات، وجمهرة أشعار العرب، ثمّ نشأ ضرب من الاختيار يقوم على المقطّعات، ويُعنى بغير ذوي الشهرة؛ بدأه أبو تمّام في حماسته، ثمّ اتّبعه آخرون على منهجه، وعنوان اختياره. وقد أُنزلت هذه المختارات منزلة رفيعة من الأدب العربيّ؛ فلقيها الناس بالقراءة، والحفظ، والشرح. وتهيّأت، من بعد، سبيل أخرى في الاختيار؛ هي أن تُنتخب الصفوة من قصائد شاعر بعينه لتكون أسير بين الناس، وليرجع إليها من يريد أن يقف على اللباب. ومثلما عرف الأدب القديم منحى الاختيار فقد عرفه الأدب الحديث، وعرف ضروباً منه؛ ومن ضروبه تلك؛ أن يختار الشاعر عيون قصائده، ويجعلها بين أيدي قرّائه ومحبّي شعره كمثل ما صنع الجواهري حين أصدر العيون من شعره. ولا ريب في أنّ الشاعر ناقد وهو يختار من أشعاره أصدقها، وأفضلها، وأدلّها على تجربته. وهو ناقد إذ يسلك بقارئه نحو نخب قصائده، ويقفه على جيادها. ولا بدّ للشاعر، إذا اكتملت تجربته واتّسعت، من مختارات تضمّ أطراف التجربة، وتجلو عناصرها، وتيسّر على القارئ أمر الإحاطة بها. ولقد كان للشاعر سامي مهدي تجربة ثريّة أصيلة في مزاولة الشعر منذ ما يزيد على نصف قرن؛ جعلته في طليعة شعراء العراق. إذ أصدر سبع عشرة مجموعة شعريّة منذ سنة 1966 حتّى سنة 2014؛ صار بعضها نادراً غير متاح لمن يريده من القرّاء؛ فاقتضى الأمر أن تكون "مختارات" من ذلك الشعر تدني بعيده، وتردّ على القرّاء ما ليس لديهم منه، وتضع التجربة كلّها في إطار يجعل تأمّلها ميسوراً.
لقد كان من مزيّة تجربة الشاعر سامي مهدي؛ أنّها تجربة لا تذوب في تجارب الآخرين، ولا تردد أصداءها؛ فقد حرصت منذ بدئها أن تقول ما ترى على النحو الذي تراه؛ ذلك أنّها تجربة فكر متأمّل تمازجه عاطفة هادئة على نحو من التوازن والاعتدال؛ إذ يتآزران في مبعثهما ومسارهما حتّى لا يجفّ فكر، وتنضب فيه الحياة ، وحتّى لا تطغى عاطفة فتتعدّى مقدارها الذي يُصلح الشعر ولا يفسده. ولا ريب في أنّ أجلّ مزايا الشعر الرفيع؛ أن ينبعث عن فكر قوي متسائل، وأن يجيء الفكر ممزوجاً بعاطفة هادئة ليّنة؛ حتّى لا يكون مجرّداً فيخرج بالشعر من حيّزه إلى حيّز آخر. والأسئلة إنّما تنشأ لدى الشاعر سامي مهدي من وقائع يراها، لكنّه لا يقف عندها إلّا ريثما ينفذ إلى ما وراءها ليصل إلى المبدأ الذي يحكمها، ويدير شأنها؛ وهي أسئلة حيّة لا تنطفئ جذوتها. وكلّ أشعاره تنبثق من تلك الأسئلة التي ما تزال تراود الإنسان وتقضّ مضجعه، وليس له منها إلّا رماد فجيعته بهذا الوجود. سمّى ديوانه الأول بـ(رماد الفجيعة) وكأنّه يرمي إلى فجيعة الإنسان وهو في مجرى الزمن، وتعاقب الحوادث، يتداوله الشك واليقين. استوعبت (المختارات) قصائد منتقيات من دواوين الشاعر منذ صدور أوّل ديوان في سنة 1966 حتّى صدور الديوان السادس عشر في سنة 2008، وقد أراد لها أن تتضمّن (نماذج من شتّى الأشكال والتقنيّات الشعريّة التي كتبت بها، لتتكوّن لدى القارئ صورة فنيّة كليّة أقرب إلى الكمال عن شعري. فمن القصائد التي اخترتها ما هو موزون ومنها ماهو نثر غير موزون، ومن الموزون ما هو مقفّى بقوافٍ موحدة أو متنوّعة ومنه ما هو مدوّر بلا تقفية. ومن هذه القصائد ما هو طويل ومنها ما هو قصير جدا.)
بدأت (المختارات) بقصيدة (الصوت واليقين) المكتوبة في آذار 1965 والشاعر يومئذٍ في الخامسة والعشرين من عمره قد زاول الحياة العامّة وما يتّصل بها، وزاول الشعر وما ينهض عليه؛ على نحو من الثقة والوضوح، ورسوخ القدم في كليهما معاً، معطياً كلّاً منهما حقّه؛ حتّى لا يستبد أيّ منها بصاحبه، وألّا يكون صدى له. فإذا كانت الحياة العامّة وشؤونها تقوم على قدر من اليقين؛ فإنّ الشعر مداره التساؤل القلق، وتقحّم المجهول، والتشكّك حتّى لا يستقر يقين.
تقول قصيدة (الصوت واليقين):
حكاية قديمه
حكاية السؤال واليقن والهزيمه!
لا تعجلوا! نبتُّ في مواسم البوارْ
رضعت ثدي الأرض، واستعرت زرقة البحارْ فصار لي وجه يُطلّ في الزحام لفتة انتظارْ
وصار لي صوت يلاحق الدروبَ بالسؤالْ:
_من لي بمن يضخّ في العروق راحة اليقينْ؟
_من لي بمن يردّ لهفة السؤال حين يستفيق في العيونْ؟
_ من لي بمن يريح موجة بلا قرارْ؟
يا حبّة اليقين لو نبتّ في فؤادي
لعلّني آخذ منك زادي
الصوت قطرة تضيع في التراب ْ
ويتعب السؤالُ ثمّ يرتمي بلا جوابْ
إنّ في هذه القصيدة التي تصدّرت (المختارات) مفتاح تجربة الشاعر سامي مهدي؛ إذ بقيت التجربة في نموّها وتجددها تمتح من بئر الأسئلة التي لا تجفّ. ولعلّ في عنوانات دواوينه ما يؤكد هذا المنزع القائم على التساؤل الذي لا إجابة له ؛ فبعد (رماد الفجيعة) تأتي (أسفار الملك العاشق)، و(أسفار جديدة)، و (الأسلئة)، و(الزوال)، و(أوراق الزوال) و(سعادة عوليس) و(بريد القارات)، و(حنجرة طريّة)، و(مراثي الألف السابع)، و(الخطأ الأول)، و(وسعادة خاصّة)، و(مدوّنات هابيل بن هابيل)، و(الطريق إلى الوادي)، و(أبناء إيننا)، و(لا قمر بعد هذا المساء) فكلّها بنحو ما إنّما تنبعث من أسئلة لا يزال الإنسان يلقيها على نفسه، أو يلقيها الوجود عليه.
إنّ من براعة الشاعر سامي مهدي مقدرته على إذابة الفكر في الشعر، بل إنّه من أقدر الشعراء المعاصرين على ذلك. ومن أقدرهم على إحكام بناء قصيدته حتّى تجيء مستوية، نقيّة من الفضول، لا يعكّر صفاءها شيء.
*http://www.alaalem.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...