الأحد، 15 مارس 2015

عبد القادر الجنابي بقلم :الاستاذ سامي مهدي




عبد القادر الجنابي 
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
ربما كان الشاعر والمترجم عبد القادر الجنابي مثالاً للشخصية الأدبية العصامية التي تبني نفسها من أدنى الدرجات ، ثم ترقى بها درجة فدرجة حتى تصل إلى مستوى مرموق .
ولد الجنابي عام 1944 ، وعرفته خلال النصف الثاتي من عقد الستينات . كان يومئذ عاملاً بسيطاً في محل لتصليح السيارات ، لم يفلح في حياته الدراسية فلم ينل أكثر من شهادة الدراسة المتوسطة ، ولكنه كان على صلة بالأدباء ، وكان محباً للأدب ، مولعاً بالكتاب ، يسعى إليه حتى يناله ، وقد يسرقه من باعته ، وله في ذلك ، شأن آخرين ، فلسفة خاصة .
غير أن قدرته على الكتابة كانت ضئيلة ، وأخطاؤه اللغوية كثيرة ، ولهذا كانت فرص النشر المتاحة له محدودة جداً . ولكنه كان يسعى بجد إلى تطوير لغته الإنكليزية ، وكان أغلب الكتب التي يسرقها بهذه اللغة .
حين نوينا إصدار مجلة ( شعر 69 ) جاءنا عبد القادر الجنابي بعدة قصائد مترجمة للشاعر الجيكي ميروسلاف هولوب ، قدمها إلى الشاعر فاضل العزاوي ، وحين قرأت هذه الترجمة رفضت نشرها لركة لغتها وكثرة أخطائها رغم إلحاح العزاوي وترجيه . وأصررت على موقفي هذا حين راجعتها وقارنتها بالأصول إذ اكتشفت فيها أخطاء شنيعة ، ولأننا كنا نتعاطف معه أخذ العزاوي القصائد وأعاد ترجمتها من ألفها إلى يائها ، وقمت أنا بكتابة مقال عن هولوب وشعره ، وعنئذ أصبحت المادة جديرة بالنشر ، فنشرت في العدد الأول من المجلة . وكان هذا أفضل ما نشر للجنابي في تلك الحقبة .
في أواخر عام 1970 قرر الجنابي الهجرة من العراق إلى بريطانيا ، وقبل أن يهاجر بأسبوع أو نحوه اشتريت منه مجموعة من الكتب الإنكليزية ، وعلمت بعد ذلك أنه اتصل باليساري الباكستاني الأصل طارق علي وأصبح من مريديه ، ثم سمعت أنه حصلت له بعض المشاكل مع السلطات البريطانية فترك بريطانيا إلى فرنسا بعد أن قضى فيها نحو عامين .
انقطعت أخباره عني حتى نقلت إلى العمل في فرنسا في أوائل عام 1977 . فقد صادف أن رأيته على مقربة من مكتبة شكسبير الشهيرة في باريس ، وقال لي إنه ممن يترددون على هذه المكتبة التي يتردد عليها أيضاً كثير من البوهيميين ، فدعوته إلى زيارتي في المركز الثقافي العراقي في العاصمة الفرنسية ، فأخذ يزورني في أيام متباعدة ويحدثني عن أخباره ونشاطاته ويحمل إلي مطبوعاً شبه دوري كان يصدره هناك بعنوان ( الرغبة الإباحية ) .
كان يحدثني أيضاً عن أنسي الحاج وعلاقته به . فقد أصدرت جماعة جريدة النهار اللبنانية في باريس صحيفة أسبوعية باسم ( التهار العربي والدولي ) وكان أنسي الحاج يعمل في هذه الصحيفة ، بصفة سكرتير التحرير إن صدقت ذاكرتي ، وكان الجنابي يزوره باستمرار ، فيجد عنده تعاطفاً وتشجيعاً لا يجدهما عند غيره ، وكان الحاج ينشر له بعض كتاباته الشعرية في هذه الصحيفة بعد أن يمر قلمه عليها ، وأحسب أنه كان يرى في أتسي الحاج أباً روحياً له وإن لم يصرح بذلك ، وظل وثيق الصلة به حتى وفاته .
لم يكن الجنابي قد بلغ نضجه الأدبي حتى ذلك الحين ، وأذكر أنه أراد عام 1979 نشر مجموعة من نصوصه ، فعرضها علي وطلب مني مراجعتها ، وحين راجعتها وجدت فيها أخطاء لغوية وتعبيرية غير قليلة فصوبتها وأعدتها إليه .
وأذكر أنه زارني ذات يوم من العام نفسه برفقة امرأة بدينة جاوزت الثلاثين من عمرها ، وعرفني بها على أنها خطيبته ، وبين لي أنه لا يستطيع تسجيل زواجه منها ما لم يكن لديه جواز سفر نافذ ، وطلب مني مساعدته في تجديد جوازه . فقلت له إنك تستطيع مراجعة القنصلية وستقوم هي بتجديد جوازك بشكل طبيعي ودون أي إشكال ، وأنا متأكد من ذلك ، ولكنه أبدى تخوفاً لا مسوغ له من مراجعة القنصلية ، فأخذت منه الجواز ، واستحصلت موافقة السفير على تجديده ، ثم تابعت المعاملة بنفسي حتى تمت . والغريب أنه تخوف هذه المرة من الذهاب بنفسه لتسلم جوازه ، وكأنه كان يخشى من فخ منصوب له ، فما كان مني إلا أن أصحبه ليتسلمه .
كان الجنابي يومئذ قد أصبح سوريالياً ، وصارت له صلات بالمجموعات السوريالية في فرنسا وغيرها ، وكان مطبوعه ( الرغبة الإباحية ) منبره السوريالي الخاص ، ينشر فيه نصوصه ورسومه التي يعبر عنها عنوان المطبوع . واستمر في إصداره حتى عام 1981 ، ثم أعقبه بإصدار مطبوع آخر مماثل إعتباراً من عام 1982 حتى عام 1984 وكان عنوان مطبوعه الجديد ( النقطة ) وصلتني منه أعداد متفرقة إلى بغداد عن طريق مراسل جريدة الجمهورية صديقي الدكتور جليل العطية .
والمطبوعان ( الرغبة الإباحية ) و ( النقطة ) مطبوعان متواضعان ، مادة وتصميما وطباعة ، وهما أدنى من أن تكونا مجلتين ، كما تتوهم بعض المصادر . أقول هذا بناء على ما يتوفر لدي من أعدادهما ، وهي كثيرة .
ابتداء من عام 1990 بدأ الجنابي بإصدار مجلة ( فراديس ) بالتعاون مع الشاعر خالد معالي مدير دار الجمل للنشر . وبعد إصدار عدة اعداد منها نشب بينهما خلاف أدى بدار الجمل إلى إعلان قطيعتها مع المجلة ، ونشر المعالي بياناً بذلك على ما أتذكر . ولكن الجنابي استمر في إصدارها حتى أوقفها عام 1994 .
وفي العام نفسه ( 1991 ) أصدر الجنابي كتابه ( انفرادات الشعر العراقي الجديد ) . وتضمن هذا الكتاب نماذج من قصائد بعض شعراء الستينيات ، وتعريفات بهم وبأشعارهم ، وكنت واحداً من هؤلاء ، ولكن ما نشره لي في الكتاب كان قصائد من ديواني الثاني ( أسفار الملك العاشق ) وكافأني على موقفي منه بأن وصف شعري بأنه متأثر بشعر الشاعر الإسرائيلي يهودا أميخاي ، إذ لم يجد لي شاعراً آخر أتأثر به سواه ، فتأمل نبل الرجل وكرمه !
أما يهودا أميخاي هذا فكنت قبل ذلك قد ترجمت له أربعاً من قصائده ، وكتبت عن شعره دراسة بعنوان ( الحرب في رؤية شاعر صهيوني ) ونشرت القصائد والدراسة في مجلة ( شعر 69 ) .
وعلى أية حال ، كان الرجل جاداً في بناء نفسه ، كان كثير القراءة ، وكثير الكتابة ، وكثير الترجمة ، ولكن تجربته الأدبية لم تنضج إلا في التسعينيات ، وصار هذا النضج يظهر في كتاباته وترجماته وقصائده . وقد انصبت اهتماماته الأساسية ، منذ البداية ، على قصيدة النثر ، وكان حريصاً على التنظير لها وتوضيح مفهوماتها وترجمة نماذج متقدمة منها ، وهو اليوم من خيرة كتابها . ومن أهم إصداراته في هذا المجال كتابه ( الأفعى بلا رأس ولا ذيل : أنطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية ) . صدر هذا الكتاب في بيروت عام 2002 وأصبح من أهم المراجع العربية الخاصة بقصيدة النثر الفرنسية . وصدر له عام 2014 كتاب عنوانه ( أنسي الحاج من قصيدة النثر إلى شقائق النثر ) وهو كتاب مختارات . أما آخر إصداراته ( 2015) فهو كتاب ( ما بعد الياء : أعمال شعرية وشقائق نثرية ) ويضم هذا الكتاب أغلب ما أنتجه خلال أربعين عاماً من مسيرته الشعرية .
والجنابي كما ذكرت سوريالي ، وهو سوريالي بإصرار ووعي مسبق ، ولذا اتسمت نبرته بروح هجومية لاذعة على عادة السورياليين ، وكان الشاعران أدونيس وفاضل العزاوي أكثر من أصابتهم نيرانها . وهو يرى اليوم أن هناك شكلين من السوريالية : سوريالية تاريخية لها تبريرها التاريخي وسوريالية أبدية . وقال في حديث متأخر له إنه تخلى عن السوريالية التاريخية منذ ربع قرن ، وهو اليوم سوريالي أبدي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...