الاثنين، 15 ديسمبر 2014

الاستاذ بهنام حبابة يتحدث عن شارع نينوى في الموصل -الجزء الاول والجزء الثاني والجزء الثالث

       جولة في شارع نينوى سيد شوارع الموصل 1913-2013 *

قام بالجولة الاستاذ بهنام سليم حبابة
1.
   
الموصل، مدينة عريقة كتب عنها مؤرخون كـُثـُر قديما وحديثا، ولست بهذه الأسطر قادرا على وصف أمجادها إنما أقصر الكتابة على ما جاء في عنوان هذا المقال عن شارع نينوى بالموصل ذلك بمناسبة مرور قرن كامل على بدء العمل فيه سنة 1913 وهو أول شارع يفتح بالمدينة، وسأجول فيه معكم معتمدا على ذاكرتي وعلى ما قرأت وسمعت وشاهدت على مدى السنين عن هذا الشارع الخالد ونحن اليوم في العام .2013 . وقد دخلت السادسة والثمانين والحمد لله.
أبدأ مسيري مع صاحبي انطلاقا من أمام الجسر الحديد إلى نهاية الشارع في رأس الجادة مشيا على الأقدام لقطع الشارع من الشرق إلى الغرب، وطوله نحو كيلومترين، ننتقل من رصيف إلى آخر لمشاهدة المعالم التي مازال بعضها قائما حتى اليوم ومنها ما قد زال واندثر.
وابتغاء للدقة في الاستذكار في هذه المسيرة الممتعة والمتعبة معا، سوف أجعلها في اربع مراحل كما يأتي:
1- الصعود من رأس الجسر إلى مدخل شارع غازي _شارع الثورة اليوم- مقابل زقاق سوق النجارين.
2-مواصلة السير لاستذكار ما على جانبي الشارع حتى بلوغ منصة وقوف شرطي المرور (سابقا)، عند تقاطع شارع النجفي مقابل شارع سوق الشعارين الذي تم توسيعه عام 1951 لكن بغير نظام.
 3-بعد استراحة قصيرة في مقهى (عبو قديح)، ننهض لمواصة السير، على الأقدام طبعا، إلى منطقة السراجخانة ثم إلى (الساعة) لنرى ما كان عليه الشارع من بيوت وعيادات وصيدليات ودكاكين ومحلات تجارية وشواهد عمرانية زال اليوم معظمها مع مرور هذه السنين التي قاربت قرنا من الزمان.
4- من منطقة الساعة حيث كانت منصة لشرطي المرور، وقد خف الازدحام وضاق الشارع عما كان عليه في أوله، منها نكمل إلى منطقة رأس الجادة.
جدير بالذكر أن (عطوفة الوالي=المحافظ) سليمان نظيف بك سعى في زمانه (1913) بفتح الجادة (الشارع) الكبير في الموصل وباشر بتعميرها، وهذا الوالي من أهالي ديار بكر، وهو كاتب بارع (كتاب الخواطر لداؤد رمو ص130).
    
              
إذا اتخذنا الطريق من بدايته عند الجسر الحديد الذي (تم افتتاحه مساء الأحد 10حزيران 1934 أمام جمهور غفير، افتتحه الملك غازي وعبر الجسر ومعه ألوف الحاضرين ثم رجعوا وانتهت الحفلة!)، (كتاب الخواطر ص330).
وعلى بعد نحو خمسين مترا من هذا الجسر جنوبا كان موقع الجسر الخشبي المنقرض، وأمامه ساحة الكمرك في باب الجسر والناس منهمكون في البيع والشراء لمختلف المواد الغذائية والمنتجات الزراعية.
   
وليس بعيدا عن هذا المكان هناك بعض السيارات –من طراز تلك الأيام- و نسمع أصوات المناداة لمن يرغب السفر إلى القرى والأرياف المجاورة، وطرقها غير مبلطة طبعا، كانت الأجرة لا تتجاوز في أسوأ الظروف الدرهم (50= فلسا) وذلك نحو سنة 1940.
    
وهناك مقهى صغير ينتظر فيه من يروم السفر أو التوديع، وإذا رغب أحدهم بقدح (استكان) من الشاي فالسعر فلسان لا غير! أما مقهى (الثوب) العالي المجاور فكان السعر فيه أربعة فلوس!!
لندع الكل وشأنهم ولنعد إلى قرب الجسر الحديد لنبدأ مسيرتنا (أنا ورفيقي) في شارع نينوى..حيث مقهى البلدية واقع عن يميننا مطلٌ على النهر، استأجره بعض الذوات من أهالي المدينة ومن مهماتهم الإشراف على عبور المواشي واستيفاء الرسوم عنها وقد أوكلوا إدارة هذا المقهى إلى متعهد  اسمه   مجيد سفري )، هاهو جالس في أول المقهى الصيفي في الهواء الطلق لاستقبال وتوديع الزبائن واستيفاء الأجور منهم، ومعظمهم من المتقاعدين وكبار السن بملابسهم التقليدية الأنيقة وهي القباء والجاكيت أو المعطف القصير معتمرين الطربوش للرأس أو العمامة. والأجرة أربعة فلوس!!..نسير صعودا إلى حيث باب حديقة البلدية، هاهي عن بعد قاعة المكتبة العامة وبجانبها قاعة أخرى هي محكمة البلدية يتصدر مجلسها الحاكم او القاضي يونس جودت الرمضاني  ، لمقاضاة المتجاوزين على أملاك البلدية وأنظمتها، لكن التغريم لم يكن يتجاوز نصف دينار كأقصى عقوبة.

وبعد مدخل الحديقة هناك  دائرة البلدية  تعلوها الساعة العاطلة عن العمل! والبناية قديمة ذات طابقين فيها غرف متواضعة للكتاب والمراقبين، واولئك مراجعون داخلون وخارجون طالبين إجازات للبناء أو للهدم أو معترضين على الغرامات الباهظة أو مستسلمين لدفعها!
   
هناك تتصاعد روائح الشواء من مطعم كباب السيد محمد علي الكبابجي ولا عجب فالشواء في الهواء الطلق، والناس جلوس في المطعم وهو غرفة طويلة شبه مظلمة يوزع فيها العامل (سعيد) مواعين الكباب على الزبائن وفي كل ماعون أربعة أشياش من الكباب فوقها رغيف خبز مع قليل من البصل والكرفس و(طاسة شربت)!!أما سعر الوجبة فلم يتجاوز العشرة فلوس ثم أخذ المبلغ يتصاعد مع غلاء الأسعار على مدى السنين حتى وصل سعر الوجبة خمسين فلسا ..يا للغلاء!!فقد بدأت نيران الحرب العظمى تصلنا فنحن في أوائل 1940.
      
أما السيد محمد علي فجالس في الباب (على الدخل) وأمامه منضدة (تاريخية متهالكة ) يقبض الأجور. واذا شك في مبلغ الوجبة فالجواب عند سعيد!
وهنا أشرت إلى رفيقي ليشاهد على الجهة المقابلة مدخل سوق النجارين المتخصصين بصنع بعض الأدوات الخشبية المستعملة من قبل المزارعين ويليه سوق الحدادين (الكبار)..لكننا نوالي السير على الرصيف لنشاهد مدخل سوق الخضراوات وقد تعددت دكاكينه، فهذه أكداس الأحمال لمختلف المنتوجات الزراعية والقصابين، وهناك عند نهاية الساحة مدخل سوق البزّازين وهم باعة الأقمشة مختلفة الأصناف والألوان.
  
واذا سرنا بضع خطوات على الرصيف فهناك سوق العطارين ذلك السوق العريق الذي يجمع المتناقضات! ففي أوله باعة الباميا والطماطا والباذنجان وهنا أيضا دكان الحلاق (ابن الساري) الذي يتعاطى الطب الشعبي وهو جاهز لمن يريد قلع ضرسه (الخايسة)، دون تخدير طبعا. يليه مدخل حمام العطارين ثم بعد ذلك هنالك دكاكين العطارين حيث تنتشر الروائح العطرية المختلفة، وكان معظم العطارين ايام زمان من اليهود الى نحو سنة 1950.
                   
بجانب سوق العطار يقع سوق الصفارين، في أوله باعة السمك..هذا شاب أمامه الموقد (البريمس) وفوقه مقلاة يقلي فيها قطع السمك ويقدمها للزبائن من يهوون أكل السمك في الهواء الطلق وهم جلوس على مصاطب أمام سوق الحدادين وإلى جانبهم حوض صغير تعوم فيه بعض الأسماك الحية المصطادة من دجلة القريب..ليبرهن أن سمكه طازج.
أما على الجهة المقابلة وبعد أن تركنا مطعم الكباب، يطالعنا مدخل سوق الميدان وهو يفضي إلى باعة الخشب والحطب تتوسطه ساحة مزدحمة بالرائحين والغادين لمصالحهم من بيع وشراء ما يلزم، فدكاكين النجارين قريبة وهم المتخصصون بعمل الدرّاسات الخشبية للحصاد (الجرجر) وعمل النواعير لسحب المياه من الآبار بواسطة الدواليب التي تجرها الحيوانات.. ورحم الله أيام زمان بعدما انتشرت التكنولوجيا..تلك هي صورة الدلاء ترتسم في خيالي تصب في السواقي لتروي المزروعات، تذكرني بالمثل القائل (يدلي بدوله مع الدلاء).
عند المدخل الثاني لسوق الميدان تقع بعض دكاكين باعة الحبوب المستعملة في الطبخ من عدس وحمص وبرغل ورز..البيع بالميزات، وبعض الموازين من الحجارة..هذه وزنها (أوقية) وتلك أوقيتان والكبيرة (نص حقـّة) والحقة =2كيلو  تقريبا وعلى ذمة البائع.
أما باعة البصل بالجملة فالوزن لديهم بالقبـّان، وهذه أكداس البصل على الرصيف وإلى جانبها تبرك الحيوانات التي حملتها يقودها أصحابها من أهل القرى مثل بعشيقة وغيرها.(والقبـّان يحمل خشبته اثنان من أصحاب السواعد القوية و"السباهي" صاحب الدكان يسجل الأوزان وبراءة الذمة على الوزّان).
أما أصحاب الأحمال فهم بانتظار الحصول على الفلوس ليشتروا بعض احتياجاتهم قبل العودة إلى قراهم دون أن يفوتوا وجبة كباب في المطعم القريب عند سعيد.
إذا أكملنا مسيرتنا، فهناك بعض الدكاكين وقد همَّ أصحابها بفتحها للارتزاق فهذا حلاق وذاك يبيع بعض الأدوات الخشبية المزينة والمزركشة بالألوان الزاهية ومنها (الصندليات) لعرائس أبناء القرى، و آخر هناك يعمل مع ابنه في إصلاح البريمس، ولما بارت تلك الصنعة تحولا إلى تصليح الساعات، وهناك بعض صناديق الموتى معروضة للبيع سعرها نصف دينار، وهذا يدعونا لاستذكار الحياة الباقية!
    
ها قد بلغنا منصة شرطي المرور الواقف بملابسه الأنيقة المتميزة يعطي الإشارات للسيارات القليلة، يومذاك، وعربات الركاب المنتشرة هنا وهناك بين شارع نينوى وشارع غازي يتصدر فيها الركاب، إنها تاكسيات تلك الأيام عند نهاية ثلاثينيات القرن المنصرم.
   
قبل وصولنا إلى مدخل سوق النجارين تنتصب عمارة بيت جردق ذات الطوابق الأربعة، وأشار صاحبي إلى الجهة المقابلة من الشارع حيث مرأب (كراج) سيارات خشبية كبيرة، حيث يتعالى صوت المنادي يدعو المسافرين إلى زاخو ودهوك وسائر المناطق الشمالية...
          
والسعر (ربع دينار) للراكب الواحد، مع بضاعته طبعا، وبعد الكراج هذا محل آرتين مركب الأسنان ..ثم لاتلبث أن تشاهد مدخل سوق الحنطة الجديد حيث الناس يتعاملون مع العلافين (تجار الحنطة والشعير) للبيع والشراء، والمحاصيل مكدسة في زوايا السوق والتعامل بالوزن (والقبان جاهز) أما السعر فلا يتجاوز الدينار الواحد للطغار (والطغار هو عشرون وزنة والوزنة 13كيلو غرام). وهناك كاتب أمامه سجل كبير يسجل فيه صفقات البيع والشراء.
  
وهذا بائع شراب السوس بملابسه التقليدية يحمل على ظهره إناء السوس البارد اللذيذ ويطرق الطاسات طرقا خاصا يدعو فيه العطاش إلى الشرب والسعر فلس واحد لا غير او حفنه من الحنطة يضعها في كيس معلق بحزامه . وان موضع سوق الحنطة أصبح اليوم مصرف الرافدين رقم 12منذ نحو خمسين سنة.
    
             

وها نحن الآن أمام مدخل شارع غازي حيث منصة شرطي المرور وهذا مدخل سوق النجاريين المؤدي إلى دكاكين صانعي المهود الملونة والمراجيح (الديديات) والأقفاص و(الشوبك والنشابه) وغير ذلك من التخوت ولعب الأطفال الخشبية. وفي أول الزقاق هذا مدخل مقهى 14 تموز الشهير المفتوح نحو سنة 1959.


2. بعد الاستراحة قليلا في المقهى على الرصيف ننهض لاستئناف مسيرتنا في الشارع وها هو أمامنا جامع الخاتون الشهير المشيد على اسم مريم خاتون بنت محمد باشا الجليلي سنة 1240هـ.. وقد تم تجديده فيما بعد سنة 1388-1978م .
نحن الآن في قلب شارع نينوى حيث الدكاكين المختلفة والمحلات والمكاتب منها غرفة تجارة الموصل ، ومكتب جريدة صوت الأمة ، ومطبعة حداد وهذه لافتة  خضراء كبيرة عليها اسم التاجر المعروف (محمد نجيب الجادر) تعلو باب مكتبه الواسع وهو عمارة جميلة. هذا وليس بعيدا مدخل سوق الصاغة الفلكلوري المشهور برجاله ومصوغاتهم ومن أشهرهم ( أولاد خرّوفه ) و( يعقوب عسكر )  وبعضهم يهود لا أتذكر أسماءهم. لكن رفيقي أشار إلى الرصيف المقابل من الشارع حيث كراج فيه سيارات باص ينادي عليها المنادي للسفر إلى تلعفر وسنجار ولا نلبث أن نصل إلى (قنطرة بيت الجومرد الأثرية ) وهذا باب دارهم الموصلية العريقة، وكأني أرى السيد عبد الفتاح الجومرد أمامي خارجا منها وأخيه الحاج محمود الأستاذ القدير. وبجانب باب الدار عيادة تابعه لتلك الدار هي ( عيادة الدكتور استرجيان)  الطبيب الارمني البارع والمؤرخ والكاتب الموهوب وقد اتخذ من مدينة الموصل موطنا حيث عاش أكثر من نصف قرن محبوبا من الجميع وتلك سيارته أمام العيادة ورقمها 18 موصل.... وكان قد بنى قصرا جميلا على الطراز الارمني العريق في الجانب الأيسر من الموصل لكنه زال اليوم مع الاسف.
نكمل مسيرتنا في شارع نينوى فنشاهد مكتبا يصعدون إليه بدرج جميل انه مكتب التاجر (عبدالأحد مراد وأولاده) وقد اتخذه فيما بعد الدكتور (عبدالنافع الخياط) عيادة له منذ أيام الحرب العظمى الثانية 1945
وكذلك عيادات مركبي الأسنان (يعقوب بطي وكامل كساب ومنير عبدالله). ثم نرى شيخا جالسا أمام باب داره انه اسكندر كجةجي (والد العقيد الحقوقي عبدالاحد كجةجي المستشار في وزارة الدفاع-والد الكاتبة والروائية السيدة إنعام كجه جي ). وهذا مكتب التاجر (السيد بكر جلبي خياط)، وتلك بناية قديمة هي دار الدكتور متي فرنكول طبيب العيون وعيادته في غرفة جانبية منها. وهذا بيت (سعيد جمعه) الموظف الكبير في شركة نفط عين زالة ثم المصرف الشرقي (استرن بانك) وقد اتخذه فيما بعد الصيدلي (جميل محفوظ ) محلا لصيدليته.
سألني رفيقي عما يوجد في الجانب الآخر من الشارع، وقرأنا لوحة مكتوب عليها (مكتب احمد جلميران) التاجر والوجيه، وهذه سينما الهلال تملأ واجهتها صور الممثلين والمطربين وتلك صيدلية بيت سرسم، هذا شرطي واقف أمام مدخل مديرية شرطة لواء الموصل بملابسه الخاكية وسروال قصير وعلى رأسه السيدارة (الفيصلية) وهي قبعة الشرطة والجيش في تلك الأيام عهد المملكة العراقية إلى 1958.
أما داخل المبنى فهناك بضعة أنفار من الشرطة والضباط للأمن والمرور يعدون على الأصابع، كان ذلك نحو سنة 1940. بعد سنين انتقلت مديرية الشرطة إلى موقعها المعروف في ساحة باب الطوب وأصبحت البناية مقرا لمديرية معارف المنطقة الشمالية (التربية) بجانبها مقهى صغير لصاحبه (عبو اقديح).. فجلسنا لنستريح قليلا ونشرب استكان شاي... ثم دفعنا اربعة فلوس، وقد أطربنا صوت الكرامافون ينطلق على الاسطوانات بأغاني ام كلثوم الشهيرة يوم ذاك.
ها هو قبالتنا نادي المعلمين فوق صيدلية محفوظ وعلى البالكون (الشرفة) بعض المعلمين الكبار منهم شفيق الجليلي وسعيد ججاوي واحمد مدحت وجميل خياط وحسني شكري...و..و..وفي الركن المقابل يقع بيت (حبابه )وتلك حادثة لا أنساها وقعت يوم عيد ميلاد الملك فيصل الثاني 1937، فقد شاهدَنا الأستاذ شفيق الجليلي عندما كنا انا وأولاد عمي نلعب على الرصيف أمام دارنا فسألنا هل تعرفون نشيدا وطنيا؟ قلنا نعم، فقال تعالوا.. صعدنا إلى النادي وهناك ميكروفون قال لنا أنشدوا .. فبدأ نافع ابن عمي سمعان بإنشاد (سجلي يا يد التاريخ بالذهب آيَ الفخار واجعلي .....)وهنا عوض واجعلي قال (حاج علي) ولا عجب في ذلك إذ كان عمره 7سنين وهو مازال في الصف الأول... فأسرع إلينا الأستاذ شفيق مهددا ماذا تقولون؟ ما هذا؟ فهربنا خائفين لا نعرف سبب طردنا!.
وكنا عصرا نقف فوق منصة شرطي المرور الغائب ونقلده في توجيه المركبات في شارع نينوى مع السيارات القليلة جدا وفي أثناء توقفنا فوق تلك المنصة كانت تمر أحيانا سيارة البلدية المعدة لرش الشارع منعا لانتشار الغبار ولتلطيف الجو، إنها أيام زمان نحو سنة 1938-1939
ها نحن الآن إذن في أربعة مفارق من الشارع فعلى اليمين مدخل شارع سوق الشعارين والنبي جرجيس وعلى اليسار مدخل شارع النجفي حيث بعض المكتبات ومحلات الصاغة
وهنا انتهت مرحلتنا الثانية من مسيرتنا في شارع نينوى قبالة مقهى (عبو قديح) حيث تقع شقة قديمة، إنها مكتب (المحامي إسماعيل الشنشلي) وأمامها دكان بائع الفواكه (على الرصيف) ثم مدخل مقهى واسع يدور فيه (الملا بشير) على الجالسين من الرواد ويقدم لهم القهوة بالفناجين المكية. أما الدكاكين على الشارع وتحت المقهى مباشرة فأولها دكان (سيد محمود-أبو هاشم) بائع السكائر العربية (المزبـّـن)، وبجانبه (عبدالحميد) بائع الكرزات بأنواعها، ويليه دكان العم (الحاج علي قدح) ودكانه كمتحف فهو مع ابنه عبدالله يبيع القلم والدفتر والنفط (الكاز) للمصابيح وبعض السكاكر حامض حلو وغير ذلك من النفائس ثم دكان النجار فرج الذي تحول بعد اذ إلى صيدلية شفيق.
أما في المقابل بالجانب الآخر من الشارع فهذا دار بيت حبابه في ركن الشارع المؤدي إلى سوق الشعارين، تلحقه محلات كان يشغل أولها منذ سنة 1930 (أولاد البك ومنهم هاشم ومحفوظ وآخرين) التتنجية – هاهم أولاده يساهمون في تهيئة السكائر الوطنية (المزبن)، ويبيعونها للزبائن، سعر الربطة (الشدّة) أربعة فلوس، أما الربطة الممتازة فكان سعرهاستة فلوس- الربطة (16) سيكارة. أما الدكان فايجاره ستة دنانير فقط سنويا تدفع على قسطين.....والشارع لم يكن مرصوفا ومبلطا .. كانوا يأتون بالمساجين من سجن باب الطوب فيجلسون على الأرض لتكسير الحجارة يرصفون بها الشارع ويأتي آخرون حاملين إناء الزفت (القير) يسكبونه فوق الحجارة .. تلك كانت الأشغال الشاقة للمساجين. نتركهم ونواصل سيرنا فهناك بعض البيوت والمحلات حتى وصولنا محل (حنا) مركب الأسنان يتصدر فيها الحاج عبدالفتاح الجومرد والمناقشة حادة بينه وبين (حنا وسعدون) عن الخيول وأسواقها وسباقاتها وأنسابها.. إنها هوايتهم الدائمة وخبرتهم في عالم الخيول! وفوق محلهم هذا يطل علينا مقهى بعض الأفندية من المتقاعدين لصاحبه أبو داهي.
3. 
أشرت لصاحبي إلى صيدلية (سليمان رمو) على الجانب الآخر ثم إلى دار سعيد عبوش التي أصبحت فيما بعد مقرا لغرفة تجارة الموصل. وبعد خطوات فهذه دار الصيدلي (عبو الحكيم)، ها هو جالس وأمامه زجاجات ملونه ملأى بالأدوية فهذا الشراب للسعال وذاك للإسهال وآخر للامساك.. وتراه متربعا على كرسيه وعلى رأسه الطربوش الكبير والنظارات على جبينه وعند القراءة ينزلها على عينيه. كان يباهي بداره ذات الطوابق الخمسة وقد باعها ابنه جميل نحو سنة 1958 بمبلغ 13الف دينار وكان يوم ذاك مبلغا ضخما جدا وهدمت الدار فيما بعد وأنشأت في المكان محلات تجارية. 
أمامنا محل باتا للأحذية وفوقه عيادة الدكتور (ناظم النكدي) طبيب المعارف ثم الدكتور عبدالهادي القاعاتي طبيب العيون وكلاهما من سوريا ومحل سنجر لمكائن الخياطة، اما العمارة فعائدة للصيدلي عبو الحكيم. سرنا قليلا فإذا نحن قبالة عيادة الدكتور (داؤد الجلبي) وذكرت لصاحبي أن هذا الطبيب هو من أعلام الموصل يتقن لغات عديدة وله مؤلفات كثيرة(ت1960)، وبعد قليل كنا أمام مدخل السراجخانة حيث تباع الأقمشة المختلفة للنساء، وفي المدخل ذاك (بيت شكر) وهم تجار مسيحيون كانوا من أغنياء ذلك الزمان. أما دكاكين الأقمشة فمنها لليهود وللمسيحيين والمسلمين .. والكل رزقهم على الله....
ولما تجاوزنا السرجخانة فهذا أمامنا بيت (خاتون خوقة) القديم يسكنه بعض القادمين من القرى إلى الموصل للارتزاق بعمل الخبز والبقلاوة...بجانبه بيت (مجيد دبدوب).. ..والطريق بعده الى مدخل الجامع الكبير وها هي منارة الحدباء الشهيرة، نحن الآن في محلة جامع الكبير، تلك عيادة الدكتور (عبد الستار الحبال) وتقابلها دار الدكتور (رؤوف عبو اليونان) وهي جميلة الطراز بشرفاتها الخشبية الهرمية وبجانبها كانت بائعة الأقمشة المدعوة (مريم امرأة بولس) كان ذلك نحو سنة1940.
ومالبثنا ان سمعنا دقات ساعة (البواتر) وهم الآباء الدومنكان الذين فتحوا المدارس والمستوصف والميتم وقاموا بخدمات عديدة لأبناء البلد وقد تعلم في مدارسهم الكثير من أبناء البلد مثل امجد وخير الدين العمري و روؤف العطار وعلي حسين الجميل وداؤد الجلبي وأيوب برصوم و د.حنا خياط وغيرهم كثيرون. وهذه (الساعة) كانت حسب التوقيت الغروبي (الغروب من الساعة12) لتنبيه أبناء البلد إلى أوقات الصلاة لان معظم الناس ليس لديهم ساعات ويجهلون المواعيد والأوقات.
وها هي منصة شرطي المرور في وسط الشارع وهنا يقف بعض العمال البطالين يطلبون عملا وهناك بعض الدكاكين لبيع خضراوات وغير ذلك  وانتهت مرحلتنا الثالثة لنستريح قليلا ثم نكمل المسيرة إلى رأس الجادة.
هنا سألني رفيقي عن الطرقات العتيقة التي نشاهدها هنا وهناك، فأخبرته أن بعضها شمالا يصل إلى حظيرة السادة وتكية النقشبندية ثم إلى حي (محلة اليهود) الخاص بسكناهم وعددهم أكثر من 500 بيت. أما جنوبا فهذه القنطرة وهذا باب الميتم للآباء الدومنكان، وتودي هذه الطرق إلى محلة اسمها المياسة فنرى أولا (مسجد المتعافي) ومقهى قديما وكثيرا من البيوت العريقة بأسمائها. ولنعد إلى أمام القنطرة... إن هذا الطريق يؤدي إلى محلة الرابعية والمنصورية ثم إلى منطقة باب الجديد (وقد فتحوه شارعا واسعا باسم شارع الفاروق سنة 1946).
على أننا انصرفنا لاكمال مسيرتنا في شارع نينوى إلى منطقة خزرج ثم إلى رأس الجادة حسب منهاج سيرنا في شارع نينوى الجديد وقد بدأ يضيق عن السابق.
هذه دكاكين صغيرة مختلفة منها للقصابين ثم واجهات بعض البيوت القديمة على الشارع من هنا وهناك. هذا الممر يؤدي كنيسة مارتوما ثم ماركوركيس القديمتين وهنا منطقة خزرج العريقة وهي من المواقع القديمة في الموصل، والموقع مزدحم ببعض المارة رائحين إلى منطقة باب البيض حيث جامع الزيواني (والمنارة المقصوصة) وهو جامع باب البيض وحوله بيوت أغوات (باب البيض). لكننا من خزرج نشاهد الطريق الآخر وهو ذو منعطفات يؤدي إلى (المشاهده) ومنطقة بيت (سيد توحي) المشهورين بالتعزيم والقدرة على شفاء المصابين والممسوسين عقليا والعياذ بالله.
أخبرت صاحبي أن في منطقة خزرج هذه تنتشر بيوت المسيحيين وجيرانهم المسلمين جنبا إلى جنب ومن أسماء المسيحيين في هذه المنطقة (بيت اسوفي، بيت سرسم وبيت شعيا).
ثم أكملنا سيرنا إلى رأس الجادة فشاهدنا أمامنا مستوصف خزرج تقابله مدرسة باب البيض وهذه بيوت الأسر القديمة (عموري والقطان وددي) وذكرت لصاحبي إن هذا الشارع من خزرج إلى رأس الجادة كان قد تأخر فتحه وتبليطه الى سنة 1921.
ذاك جامع المحموديين وعلى اسمه سميت المحلة، والمدرسة وههم أولاد الطعان والنجماوي يتعلمون في المدرسة وهذا بيت جرجس ددي على الشارع العام، وهكذا نشاهد بعض الدكاكين المتفرقة في رأس الجادة حيث (البانزينخانة) التي تعمل باليد وسعر الكالون الواحد (104فلوس) مائة فلس السعر وأربعة فلوس الربح. وتلك بعض المقاعد الخشبية (المتهالكة) في مقهى رأس الجادة وبعض الشيوخ جالسين يتداولون في أمور الدنيا وفيهم من يتحزب لهتلر وغيرهم لموسوليني أو للمسقوفي... وهنا ينتهي شارع نينوى وقد انتهت المرحلة الأخيرة من تبليطه سنة 1921، ولا شي بعد ذلك إلى سكة القطار البعيدة والشارع ترابي، يمينا نرى موقع (تل كناس) حيث المشفى الوحيد في المدينة وأشرت لصاحبي حيث موقع قبر البنت والطريق المؤدي إلى تلعفر وتنتشر هناك مواقع مقبرة الأرمن والاثوريين في المكان المدعو (بستوطات = بصلوثات) القديمة ويقابل موقع رأس الجادة جنوبا الطريق المؤدي إلى باب البيض حيث تكية الأغوات أما منطقة موصل الجديدة فلم يكن لها اثر. انما بعد 1947 اشترى الآباء الدومنكان نحو 50 ألف متر من (أولاد عبو اليسي ) وشرعوا بالبناء. أولا المدرسة (الثانوية الاهلية كلية الموصل) ثن ميتم ودير للراهبات وأخذت المنطقة تزدهر بشوارعها وأسواقها وجوامعها وكنائسها بحيث أصبحت مدينة حية. ثم قامت البلدية برصف الشوارع واصبحت الموصل الجديدة اليوم بلدة عامرة مكتظة بالناس والاسواق واتلمحلات التجارية والصناعية المختلفة..كل ذلك بعد عام 1950...
جلسنا للاستراحة في المقهى أمام (البانزينخانة) ثم تهيئنا للعودة أدراجنا بعد هذه المسيرة الاستكشافية والتاريخية الممتعة ورحم الله أيام زمان.
_______________________________
*من موقع جريدة الكاردينيا   



















.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معنى كلمتي (جريدة ) و(مجلة )

  معنى كلمتي ( جريدة) و(مجلة) ! - ابراهيم العلاف ومرة تحدثت عن معنى كلمة (جريدة ) وقلت ان كلمة جريدة من   (الجريد) ، و( الجريد) لغة هي :  سع...