السبت، 13 ديسمبر 2014

شارع النجفي.. عكاظ الموصل خصوصية حرفية وشناشيل متميزة بقلم : الاستاذ عبدالوهاب النعيمي

شارع النجفي..
عكاظ الموصل خصوصية حرفية وشناشيل متميزة
  بقلم : الاستاذ عبدالوهاب النعيمي
        انه أكثر الشوارع ضجيجا وزحاماً، واقل مساحة وأقصر طولاً بين شوارع المدينة العريقة بثقافتها، تزاحمت عليه المسميات، والالقاب من شارع الثقافة الى شارع الصحافة الى شارع المكتبات، مع ان اسمه الرسمي والشائع او المتداول هو شارع النجفي.
        ولفظة النجيفي من اذ كونها من الفاظ النسب، وهي تطلق على أي شيء ينتسب الى مدينة النجف الاشرف ثتير أمامنا حكاية ثانية غير حكاية المعادلة المقلوبة، وقد رأينا أن نفصل القول في موضوعة اللفظ ونرجئ الكلام قليلاً عن الحكاية الاولى..
        لابد أن ترد الى البال أسئلة عديدة على غزار، ماذا يفعل النجفي في الموصل، وما علاقته بالصحافة او الثقافة؟
هل كان هو أول من افتتح مكتبة في هذا الشارع أو انشأ مطبعة أو اسس صحيفة أو انشأ مجلسا أدبيا او احدث فعلاً متميزا لكي يقترن اسمه بهذا الشارع الذي تعاقبت الاجيال على ارتياده لاقتناء كتاب ما أو مجلة أو صحيفة، أو لتصحيف كتاب او صيانته لدى الوراقين المنتشرين بين المكتبات الكثيرة..؟ التسمية كما تشير و (تؤكد) المصادر الشفاهية المتداولة بين معمري المدينة ممن عملوا في هذا الشارع منذ افتتاحه عام 1908 حتى انتصاف القرن الماضي، جاءت تجريفا من أسم (النجيفي) نسبة الى الحاج محمد بك النجيفي وتكريما له اذ ان داره كانت قائمة وسط هذا الشارع وهي أول دار تشيد وتنهض عامرة منذ قرابة المائة عام، كانت متميزة بطريقة بنائها وشناشيل واجهاتها الجميلة اذ تعد آية من آيات الابداع الحرفي في زخرفة الخشب وريازته، وكان ذلك في عهد السلطان العثماني مراد الرابع.
        مصادر أخرى تقول ان شارع النجفي افتتح مابين عامي 1907-1908 في زمن والي الموصل سليمان باشا نظيف، ليكون فيما بعد من اكبر الشوارع الثقافية في الوطن العربي لكثرة ما فيه من مكتبات كبيرة تضم أمهات الكتب والمصادر، ففي هذا الشارع تجد بائع الكتب في مكتبته وفي الدكان الذي يلي المكتبة تجد المصحف، وبعده تجد سلسلة من المكتبات والمصحفين اذ ان كل مجموعة من المكتبات تتعامل مع مصحف متخصص يعني بكتبها من اذ التغليف والتجليد والريازة والزخرفة والخط (أقصد خط عناوينها بماء الذهب) وتصحيفها بورق (الأبرو) المزيت الذي يقاوم الرطوبة والجفاف معا ولا يخترقه الماء.
        الشناشيل هي من أهم مميزات الفن المعماري في البصرة، ولكن اللافت للنظر في شارع النجفي هو كثرة شناشيله، حتى ليكاد المرء يشم نكهة البصرة في الموصل من خلال الطرز المعمارية في هذا الشارع، من غير ان تفوتنا الاشارة الى تباين الطرز الفنية والمعمارية والمرحلة التاريخية، مما يجعل هذا الفن في المدينتين مستقلا ومنتميا الى نفسه، ففي البصرة تتدلى الشناشيل بطرق وطرز هي غيرها مما في مدينة الموصل، وكذلك فان الفوارق في المواد الاولية، تكاد تكون متباينة الى حد ما ايضا. وقد عرفت مهنة الزخرفة والريازة في مدينة الموصل قبل البصرة بكثير، ومنها انتقل الصناع والحرفيون الى مدن كثيرة مثل حلب في سوريا ومدن تركية كثيرة تقع في الجنوب التركي مثل نصيبين وديار بكر وأورفة، كما اتجهت هذه الحرفة مع حرفيها الى مدن عراقية أهمها العاصمة العراقية بغداد والكوفة والنجف الاشرف ثم البصرة، ولذلك طرق الريازة ما بعد عام 1800 جاءت متقاربة او متشابهة في بعض المواضع في جميع هذه المدن، لان مصدرها (واحد) وهي مدينة الموصل التي ابتدأت طرق الريازة فيها بعد عام 612 قبل الميلاد اي بعد دمار مدينة نينوى وحرقها اذ التجئ مجموعة من النحات والمعمارين الى مدن كثيرة في اتجاهات الشمال والغرب والشرق والجنوب، وكان نصيب الموصل المتاخمة لمدينة نينوى والمقابلة لها مجموعة من النحات والمعماريين الذين نجوا بأنفسهم من هلاك حريق نينوى والتجئوا الى الموصل عبر نهر دجلة سباحة او بواسطة الطوافات او القفز، فاحدثوا بعد استقرارهم بها تغييرا جذيا في طرق البناء وطرز المعمار الجديد الذي لا يشبه ما كان سائدا او معروفا قبيل وصولهم المدينة او مكوثهم بها وقد استفادوا من مقالع الحجر في وديان المدينة وكهوفها وتلولها ولاسيما المرمر الأبيض والمرمر الاسمر (حجر الحلان) وبدؤوا بتطعيم البناء تدريجيا مبتدئين من المداخل (الابواب) التي تميزت بحجومها الكبيرة وانحنائاتها الدورانية وزخارفها التي تشبه الى حد كبير تلك الزخارف الموجودة على اجنحة الثور المجنح لينتقلوا في مرحلة لاحقة الى النوافذ الصغيرة اذ بدؤوا بتوسيع فتحاتها من (كوة صغيرة مدورة الى مربعات الشكل) الى نافذة كبيرة بحجم قامة الإنسان محفوفة بأطر مرمرية مزخرفة ومزينة بنقوش دقيقة وفواصل وخطوط متعرجة او متقاطعة او مستقيمة تنتهي بحدود الزاوية لتلتقي بخطوط او زخارف متشابهة تمتد في اتجاهات متعاكسة، تؤطر النافذة (الشباك) في اطرافة الاربعة وتمتد في جزءه العلوي الى أبعد مما انتهى الجزء السفلي اي قاعدة الشباك باكثر من نصف متر صعودا على عرض الشباك بزخارف ونقوش اغلبها يعتمد النجمة والهلال او إشكالا أخرى مستمدة من الابراج المعروفة...امتدت الحالة الى اكثر من ذلك في فترات تاريخية متأخرة عن العصر الاتابكي، لتظهر واجهات جديدة للمساكن تعتمد (الطارمات) المرمرية التي تمتد افقيا فوق اكثر من شباك من شبابيك الواجهة او تمتد طوليا باتجاه مقدمة الدار فوق البوابة الرئيسية للمدخل مؤطرة بزخارف ونقوش مصنوعة من مادة الحديد او من مادة الخشب الزان او في أحيان قليلة من المرمر الأبيض الموصلي والذي يعرف عند أهل الموصل بأسم (الفرش) نسبة لاستعماله كبلاط لفرش أرضيات السراديب وغرف الدار في البيوت الموسره .
وشارع النجفي اخذ هذا المنحى في زخارف شناشيله والتي تسمى بلغة اهل الموصل (الكوشكات) اذ تم (تطبيق) واجهات الأبنية في هذا الشارع ابتداءاً من أول دار أنشئت هي دار السيد النجفي وانتهاءا في أخر دار شيدت في عشرينات القرن الماضي، ثم تطبيق واجهاتها بمادة الخشب بعد ريازته ونحته وتخريمه أو زخرفته، اذ شهدت مدينة الموصل في عشرينات القرن الماضي صناعاً اجادوا وأبدعوا في فن الحفر والزخرفة على الخشب بطريقة يدوية بحثة، واختص عملهم الأساس في زخرفة الواجهات وتطعيمها وتلوينها لذلك جاءت معظم الطرز متشابهة في شوارع مدينة الموصل. ان مادة الخشب ليست هي المادة الوحيدة التي تدخل في واجهة العمارة، بل هناك الى جانبيها تدخل قطع النحاس اوالصفيح المصقول و (محجلات) الحديد التي تم صنعها لدى الحداد بطريقة يدوية، ايضا تعتمد على رغبة صاحب الدار أو العمارة باختيار النقوش أو الزخارف التي تزين الواجهة، لكن الشناشيل حصرا كانت تعتمد مادة الخشب لانه مطواع ومقاوم، يمكن الحرفي من رسم أو نحت الاشكال الهندسية نباتية كانت أو حيوانية بالشكل الذي يظهر مهارة وجمالية تلك الشناشيل. وقد اعتمدت في الثلاثينات الشناشيل المصنوعة من مادة الصفيح المصقول، اذ اجاد بعض الصناع قص الصفيح وتخريمه وتحويره بما يشبه مادة الخشب اتقانا وفنا وريازة.
        وشارع النجفي خاصاً احد الشوارع التي اهتم اصحاب العمارات فيه بريازة الواجهات،  حتى جاءت ابنية متميزة اكثر من غيرها من شوارع المدينة باستثناء شارع نينوى الذي يعد الشارع الرئيس في المدينة والذي تم افتتاحه من رقبة الجسر القديم وحتى منطقة (رأس الجادة) بحدود عام 1910 ويعد اطول الشوارع في المدينة وما يزال هذا الشارع الاكثر اهمية والاكثر اشعاعا في مدينة الموصل، ولكن تبقى في شارع النجفي الخصوصية الحرفية وهي بيع وتأجير وتبادل الكتب، اذ انه اشبة بسوق عكاظ تجد فيه من الكتب كل نفيس ومن كل صنوف العلوم والاداب والمعرفة الإنسانية، فهذا الشارع هو أكثر الشوارع فاعلية في بناء الثقافة المعاصرة التي انتجها وما يزال ادباء وصحفيون وكتاب هذه المدينة، فقد تغذى كل من أمتهن حرفة الكتابة على ما تضخه مكتبات شارع النجفي من مطبوعات عربية او اجنبية مترجمة او بلغاتها الاصلية وكان اصحاب المكتبات يتعاونون مع طالب الكتاب، يبحثون معه بجد وحيوية حتى يتمكن معهم او يتمكنون معه من العثور على الكتاب المطلوب وبأسعار زهيدة لاتكاد تذكر، وكثير من اصحاب المكتبات يوفر الفرصة الاضافية للاديب اوالكاتب بتحقيق رغبته بقراءة كتاب ما (ثمين ومرتفع السعر) اذ يقوم باعارته للاديب او الكاتب لبضعة ايام شريطة ان يحافظ على الكتاب ويعيده الى صاحب المكتبة نظيفا وكاملا.
        في شارع النجفي كما هو حال العديد من شوارع الثقافة أو المكتبات أو الصحافة في مدن عراقية أو عربية أخرى مثل شارع المتنبي في بغداد أو الشوارع المماثلة في حلب ودمشق والقاهرة تكثر ظاهرة انتشار المطابع ومن خلالها تتواجد مكاتب أو مقرات الصحافة الأدبية أو السياسية، وقد أحتضن شارع النجفي منذ اربعينات القرن الماضي مجموعة من المطابع مثل مطبعة الحصان والاتحاد والعصرية والشرقية وام الربيعين واحتضن في خمسينات وستينات القرن الماضي مطابع جديدة مثل مطبعة الجمهور ومطبعة الزهراء ثم الهدف والطليعة، انتشرت في الازقة والفروع المتشعبة من الشارع او القريبة منه، وبفعل وجود هذه المطابع نهضت مجموعة من مكاتب الصحف في حوض الشارع او تفرعاتها ابرزها مكاتب صحف (فتى العراق/ نصير الحق/ الهدف/ الفكر العربي/ الاديب/ الكشكول/ التعاون) وكانت مكاتب المطابع او الصحف عامرة بوجود عشرات الاسماء الادبية والثقافية المهمة يتواجدون فيها يوميا على مدار ايام الاسبوع بأستثناء يوم الجمعة، وهذا التواجد العفوي كان بمثابة مجالس ادبية تتشكل تلقائيا من دون قصد مسبق، اذ يلتقي في واحدة من ادارات المطابع او احد مكاتب الصحف فتنشأ بينهم حوارات ساخنة تتناول جديد الساحة الثقافية العراقية او اخر مستجدات واصدارات الساحة الثقافية العربية، ومن خلال تلك الحوارات كانت تتشكل حالات نقدية رصينة برزت الى الساحة الثقافية بكتب مهمة خلال مرحلتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي شملت الدراسات الفلسفية والتاريخية واللغوية الى جانب الدواوين الشعرية ومجاميع القصص والروايات .كانت تلك اللقاءات مهمة في طروحاتها الفكرية، ولكن على الرغم من اهميتها القصوى وحاجة المثقف اليها في حينها كحدث ثقافي وفي قابل الازمنة اللاحقة كوثيقة من وثائق المرحلة التي مثلتها، فانها لم تدون ولم توثق تاريخيا، بل ان بعضا من وقائعها يروى هنا او هناك كشاهد لحالة معينة على ماكانت عليه الحركة الثقافية الموصلية في تلك المرحلة الزمنية المهمة والتي لم يكشف النقاب عن جوهرها بصورتها الحقيقية، ولم يتطرق اليها البحث الاكاديمي من خلال رسائل الماجستير او اطاريح الدكتوراه،  بالرغم من انها تعد من اخصب المراحل الفكرية والثقافية في الواقع المعرفي بمدينة الموصل عاصرها ادباء كبار ومثقفون يشار اليهم، ومؤرخون على قدر كبير من الاهمية، واصحاب فكر ورأى عمالقة في عطاءاتهم وواقع حالهم، ظلت مساهماتهم مسكونة في ظل مغيب او مجهول لم يجتهد الباحث بالوصول الى قرارها على الرغم من اهميتها الفكرية واهمية اصحابها في الرأي المعرفي عراقيا وعربيا .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين

  كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل  لا ابالغ اذا قلت انه من ال...