الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

خطوط عامّة من تاريخ حقد خاص بقلم : ا.د.علي جواد الطاهر *

خطوط عامّة من تاريخ حقد خاص
بقلم : ا.د.علي جواد الطاهر *
العجيب أنّي لا أومن بالحقد، أو بمعنى أدقّ لا أعيره اهتماماً، ولا بدّ من أن يكون لتلك الظاهرة أسباب، ولا أريد أن أقول إنّ في الأسباب أنّي لم أحسّ الحقد في نفسي، فتلك مسألة أخرى يقرّها من يقرّها، وقد ينفيها من ينفيها؛ ولكنّي أقول إنّي لم التقِ بعدد يؤبه به من الحاقدين، وإنّ الذين التقيتهم قليلون جدّاً وليسوا من التأثير الاجتماعيّ وقوّة الرأي بمكان. يمكن أن أذكر منهم واحداً أتعب نفسه في حقده، واستطاع أن يؤذي، ولكنّ حقده عاد عليه وأذاه عاد نفعاً في عالم المعاني.
وثانياً لم يكن قد أظهر حقده، وإن كنت أحسّه فأداريه لا خوفاً منه لأنّه ليس بالمكان المخيف، ولكن تسهّلاً واستخفافاً منّي لما يبديه نحوي من ودّ واحترام في مناسبة وغير مناسبة، وانتظاراً لمناسبة تفضح المكتوم وتهتك الستر. وقد جاءت المناسبة أخيراً - وبعد نحو من أربعين سنة - على غير مناسبة، فقد أعجبه أن يكتب مقالة عنّي، أو قل ضاق ذرعاً بما كان يؤرقه فرأى أن يدسّ هذا الذي يؤرقه في مقالة يكتبها عنّي، وقد كتب المقالة موقّعة باسمه ولكنّها لم تذكر اسمي، وإنّما تشير إليه بمحامد يعرفها الكثيرون حتّى الذين لم يكن الأدب شغلهم الشاغل. ومن هؤلاء الكثيرين محامٍ وقعت بيده المجلّة، وما كاد يلمّ بالمقالة حتّى رآها تقصد إنساناً بعينه سبق أن عرف محامده الخاصّة والعامّة، الأدبيّة وغير الأدبيّة، وفيها أنّ ذلك الإنسان ناقد، وأنّه علّم الأجيال الفوارق بين الأجناس الأدبيّة وحدّد لهم المصطلحات، وأنّه كاتب مقالة متميّز، وأنّه، وأنّه... والرجل يقرأ ويتمثّل له ذلك الإنسان ويحسّ - خلال ذلك - أنّ وراء المقالة ما وراءها، أو وراء المحامد التي لم يكن لكاتب المقالة محيص من ذكرها مهما خفّض من منزلتها وتأثيرها... أجل، وها هو ذا الإحساس يستحيل حقيقة ناصعة حين يصطدم القارئ برأي للكاتب لا صحّة له، ولا رائحة من الصحّة فما كان يوماً منّي وما كنت يوماً منه، ومعلوم عنّي جيّداً، إلّا لمن كان في قلبه مرض، أنّي أُعنى بالثمرة الناضجة وأرحّب بالكتابة المبدعة، والناس لدي في ذلك سواسية حتّى لدى اختلاف المشارب، وأنّي لأذهب بالترحاب مذهب الفرح والسعادة والتهنئة، وربّما لامني في ذلك صديق. أمّا الأعمال الرديئة فأغضّ عنها الطرف، ومثلها الأعمال الوسط. قد يكون هذا عيباً في الناقد، ولكنّه الأمر الحاصل معي، وله لدي أسباب ربّما شرحتها للائم أو اللائمين القليلين.
ومن هنا يبدأ حقد الحاقد الجديد القديم، قديم يوم كان تلميذاً لي يدخل "حقيبة" الوسط حفظاً وفكراً وذوقاً وسلوكاً، وربّما نزل في بعض من هذه المفردات عن الوسط؛ أمّا أن يرى في نفسه المتفوّق والمبدع والشاعر والقاص، فذلك شأنه. ومن هذا الشأن يبدأ مقياس الحقد، وترتفع درجات المقياس حين يرى أستاذه يثني على آخر أو آخرين من زملائه، ويبلغ في الثناء على ذوقهم، أو مستقبلهم درجات تغيظ أمثاله. ويشهد الأستاذ أنّه كان يفعل كلّ ذلك طواعية وبحسن نيّة، وبواجب من واجبات المربي. ويتخرّج التلميذ المتوسط متوسطاً كما هو طبيعيّ، ولكنّه في نفسه فوق الوسط، ولا يستطيع واقع الحال أن يقنعه بدلالة الحال، ولا سيّما حين يستضيف لنفسه محامد خارجة عن طبيعة الإبداع الأدبيّ أو المنزلة الأدبيّة، فتعمل هذه المحامد الخارجيّة عملها السيء في الحرف والانحراف وتُري صاحبها الباطل حقّاً، والورم شحماً، والقليل كثيراً.. كيف لا وهو الأديب الكاتب الشاعر القاص ينشر حيث يشاء من الجرائد والمجلّات ويصدر ما يشاء من الدواوين والنقود؛ ألا إنّه أديب متميّز، مبدع، في الصدارة.. أجل، ولكن ما بال أستاذه القديم لم يرفعه سابقاً كما رفع الآخرين، ولم يرفعه لاحقاً كما يرفع الآخرين؟ ويغلي غيظ في نفسه، ويشتدّ، ويعمل على تخفيض حرارته بما يراه مخفّفاً: أن يهدي إلى أستاذه القديم نسخة من ديوانه بإهداء رنّان، أن يلحق الديوان بكتاب يراه من النقد بالمنزلة التى رأى ديوانه من الشعر... أن يكتب معظّماً كتاباً صدر حديثاً لأستاذه القديم... أن، أن... فما أفاد وأجدى، واستتبّت الأمور، واستقرت الأحكام فلماذا؟ وكيف؟ إنّه لا يستطيع أن يطعن بمكانة أستاذه من البحث والنقد والذوق، أو بمكانته عند الناشرين والناقدين والدارسين والقرّاء، فما العمل وكيف السبيل إلى المطعن الذي يفرث الغيظ الذي يتزايد غلياناً ويكاد يُطير الغطاء الكابس. وفكّر ودبّر وكتب مقالة، ووقعت المقالة بيد القارئ الكريم الذي أدرك ما وراءها من خبث وحقد حتّى إذا بلغ قول القائل عمن يكتب عنه مقالته: إنّه يسكت عن مدح الآثار العالية؛ والساكت عن الحق شيطان أخرس، انتفض فرفع التلفون متّصلاً بالأستاذ مستفهماً أوّلاً عمّن يكون فلان بن فلان هذا النكرة المتطاول، فعرّفه الأستاذ بفلان بن فلان، وأنّ علاقته به حميدة في ظاهرها فزاد القارئ الكريم تألّماً ووصف كاتب المقالة بنعوت لم يحسب ذلك الكاتب حسابها، فعمل الأستاذ على أن يخفّف من ألم القارئ الكريم، وودّعه شاكراً اهتمامه... ثمّ فكّر في الربح الذي يجنيه من حقد الحاقد، فإذا هو غير قليل: "إنني أُعنى بالثمرة الناضجة وأرحّب بالكتابة المبدعة، والناس لدي في ذلك سواسية حتّى لدى اختلاف المشارب..." فكاتب المقالة غير مصيب، لكنّه لجأ إلى هذه الكذبة المفضوحة إذ سُدّت في وجهه السبل، ولن يجد من يُقرّه على دعواه، وإذا تصوّر نفسه الثمرة الناضجة، والكاتب المبدع الذي لم يلتفت إليه أستاذه فإنّ تصوّره سخيف ساقه إليه حقد من نفس مريضة لقيت الهوان الطويل بسبب من التصوّر السقيم. وهكذا صار الحَقَدَةُ ثلاثة! واحد مات، وواحد ولد ميّتاً، وواحد سيموت. قلت ثلاثة لأن آحادهم تبقى آحاداً، وإذا كان الموت حقّاً على المخلوقات كلّها، فإنّه لا يخلو من التفاضل..!
*كتب الاستاذ الدكتور سعيد عدنان وهو ينشر هذه المقالة في جريدة العالم الالكترونية 2-12-2014 ورابطها : http://www.alaalem.com/ مايلي :" هذه مقالة لأستاذنا علي جواد الطاهر، كان قد كتبها في أخريات حياته، ولم ينشرها، وقد وجدتها في أوراق قديمة عندي، وهي أثر نفيس كآثاره الأخرى، جدير بالقراءة والتأمّل؛ لما فيه من حسن الصياغة، وحسن المحتوى القائم على خُلق كريم سمح. قلّما كتب الطاهر في مقالاته عن شأن خاصّ به، بل هو يجعل مدار كتابته الشأن الثقافي وما ينبثق عنه، لكنّه في هذه المقالة أعرب عن حالة خاصّة، وصوّر ما وقع عليه من "حقد" وأذى، وبقي على سجيّته سمحاً كريماً لا يثقل نفسه بما يضمر الآخرون قد أخذ نفسه بأن يجعل الصاب عسلاً..! رحم الله أستاذنا الجليل علي جواد الطاهر فقد كان مجمع فضائل لا تحصى..."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فلاديمير إيليتش لينين 1870-1924يعود الى العاصمة الروسية بطرسبورغ بعد عشر سنوات من النفي ليتسلم مقاليد ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى 1917

  فلاديمير إيليتش لينين 1870-1924يعود الى العاصمة الروسية بطرسبورغ بعد عشر سنوات من النفي ليتسلم مقاليد ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى 1917 ا...