الاثنين، 24 نوفمبر 2014

ذكريات الاستاذ سامي مهدي والحلقة بعنوان :" أجدع ناس

ذكريات الاستاذ سامي مهدي  والحلقة بعنوان :"  أجدع ناس:
************************************************
زرت القاهرة مراراً ، في ظروف ومناسبات مختلفة ، ومنها زيارة لا أتذكر مناسبتها مع الأسف ، ولكنني أتذكر وقائعها كلها . كانت زيارة فريدة ليست كباقي الزيارات ، كنت وحدي ولم تكن ثمة التزامات تقيدني وتحدد حركتي .
كانت الزيارة عام 1974 ، وكان زميلي وصديقي القاص عبد الله نيازي مديراً لدار الكتاب العراقي في العاصمة المصرية يومئذ . ولا يغرنك الإسم الكبير لهذه ( الدار ) فهي مجرد دكان يقع في الجهة المقابلة تماماً لمقهى ( ريش ) الشهير ، تعلوه لوحة كبيرة كتب عليها بخط الرقعة ( دار الكتاب العراقي ) . وكانت مهمة هذه الدار هي عرض الكتب الثقافية العراقية وبيعها بأثمان زهيدة للقراء المصريين . ولم يعد لهذه الدار وجود اليوم .
صادف أن كانت الزيارة في شهر رمضان فكان برنامجي اليومي بسيطاً جداً ، كنت أستيقظ في الصباح في الوقت الذي اعتدت الإستيقاظ فيه ، وبعد أن أتناول فطوري في غرفتي في فندق كارلتون ، الذي يطل على ساحة التحرير في جانب منه وعلى النيل في جانب آخر ، أخرج إلى المدينة وأتجول في شوارعها القريبة نحو ساعة ، ثم أخفّ إلى شارع سليمان باشا وأشتري عند مدخله القريب من ساحة التحرير جريدة الأهرام ( أو الأخبار ) وأمضي بعد ذلك إلى مقهى ريش لأحتسي فنجاناً أو اثنين من القهوة وأقرأ الجريدة .
كان مقهى ريش مفتوحاً حتى في شهر الصوم ، ولكنه يبدو مغلقاً أو كالمغلق من خارجه ، وكان يضيف زبائنه النادرين ، في مثل هذا الوقت ومثل هذا الشهر ، في داخله المعتم الصامت الساكن إلا من بعض الحفيف الذي تحدثه حركة عامل المقهى . وكنت إذا انتهيت من القراءة أخرج إلى النور ، وأمضي إلى مكتبة مدبولي الشهيرة في ساحة طلعت حرب القريبة ، وبعد إطلالة على الكتب قد تطول وقد تقصر ، أنتهي إلى ( دار الكتاب العراقي ) فأجد زميلي وصديقي عبد الله نيازي في انتظاري .
كان عبد الله وحيداً هو الآخر ، فعائلته في بغداد ، وهو بعيد عن السفارة العراقية وموظفيها وشؤونها ، فوجد فيّ أنيساً له في نهارات عمله اليومي المضجر ، وفي لياليه الموحشة الخاوية ، فكنت أقضي معه الكثير من الوقت ، نتجاذب أطراف الحديث في النهار ، ونذهب إلى هنا أو هناك في الليل بحثاً عن متع بريئة وطريفة .
ولعل من أروع تلك المتع زيارة حي الحسين . وحي الحسين في ليالي رمضان هو غيره في ليالي بقية الأيام . فهو في ليالي رمضان يعج بالناس ، وتكتظ مقاهيه بالرواد ، ويتزاحم في كل فسحة منه أصحاب الألعاب والفنون الشعبية ، حتى ليذكرك فوراً بمشاهد أوبريت ( الليلة الكبيرة ) إحدى مآثر الراحل صلاح جاهين . فصور مشاهد حي الحسين في رمضان كمشاهد ليلة ( المولد ) واحتفالاتها الشعبية في مصر كما رأيت .
وصلنا حي الحسين مع الغروب . فقادني عبد الله إلى أطلال مبنى مهدم ، سوّيت أرضيته ورصت عليها مصاطب وكراسي خشبية قديمة ، وجُعل لها مدخل يقف عنده رجلان أحدهما يبيع التذاكر بثمن زهيد والثاني يتسلم النقود ، فقطع عبد الله تذكرتين ودخلنا وأنا لا أعرف ما سيحدث . ولما سألته ضحك وقال سترى . جلسنا في وسط المكان ، وبدا لي أننا نجلس في صالة مفتوحة في انتظار مغنّ أو خطيب .
لم نكد نستقر في جلستنا حتى جلست بجواري سيدة مصرية شعبية تلتف بملايتها ، وتحمل طفلها وبرفقتها رجل هو زوجها دون ريب . ولما سمعتني أتحدث مع عبد الله التفتت إلي ، وبعد أن تفحصت وجهي بعينيها الواسعتين الكحيلتين سألتني : حضرتك من أي بلد ؟ فأجبتها وأنا مأخوذ بسحر عينيها : من العراق . فردت علي بعذوبة ذلك الرد المصري التقليدي في مثل هذا الموقف : أجدع ناس ! فشكرتها وأنا ما أزال مأخوذاً بذلك السحر ، ثم ابتسمت برقة ، وتحولت إلى زوجها وانهمكت معه في الحديث .
بعد قليل ظهر علينا في المكان – الصالة رجل لم أشك لحظة في أنه المطرب محمد عبد المطلب فاستغربت . فسألت عبد الله : أهذا هو حقاً محمد عبد المطلب ؟ قال نعم هو ( طِلِب ) بقضه وقضيضه ، ولهذا أردت أن أفاجئك به ! فقلت : أهانت به الدنيا إلى حد أن يغني في مثل هذا المكان ؟! فضحك عبد الله ورد علي باللهجة المصرية : هي دي حال الدنيا !
غنى عبد المطلب في تلك الأمسية أغنيتين : بتسأليني بحبك ليه ، ويا حاسدين الناس . ولكن صوته كان قد بدا عليه التعب ، وفقد بعض قوته وصفائه ، فآل حاله إلى ما آل إليه ، فأشفقت عليه وأحسست بالألم والمرارة ، ولذا لم أستطع أن أواصل البقاء في المكان .
حين خرجنا من هذه الصالة ( التعبانة ) رحنا نتجول في المنطقة . كانت ثمة مبان أخرى مهدمة انتشر فيها وعليها أصحاب الألعاب والفنون ، فكنا نتوقف عند بعضهم لنتفرج ، حتى التقينا بسيدة في أواسط العمر تبيع السكائر وتضع بجانبها حقيبة كبيرة مفتوحة وقد خطّت على غطائها من الداخل عبارة بذيئة تقال ، حتى عندنا هنا في العراق ، للتعبير عن اللامبالاة بالدنيا ومتاعبها ، وتعلو هذه العبارة كنيتها الخاصة ( أم علي ) . فتوقفنا عندها ونحن ننظر إليها وإلى الحقيبة ضاحكين ، ثم سألتها بمزح : إيه ده يا ام علي ؟ ليه كده يس ؟ فأطلقت ضحكة صافية مجلجلة من أعماقها وقالت دون حرج : دي أصلها ما تمشيش إلا بكده !
الدنيا ما تمشيش إلا بكده ! تعبير شعبي بليغ عن الإحساس بمحنة الوجود ، وطريقة عند بسطاء الناس في مواجهة متاعب الحياة بالسخرية منها ، لم تجد ( أم علي ) غيرها لإعلان قرفها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين

  كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل  لا ابالغ اذا قلت انه من ال...