الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

هل ثمة مدرسة تاريخية عراقية معاصرة؟ بقلم ::ا.د. إبراهيم خليل العلاف

هل ثمة مدرسة تاريخية عراقية معاصرة؟
بقلم ::ا.د. إبراهيم خليل العلاف
ابتداءً أقول نعم.. هناك مدرسة تاريخية عراقية تمثلت في نخبة طيبة من المؤرخين الذين ينتمون إلى أجيال ثلاث. كما أن هذه المدرسة تمتد بجذورها الفكرية إلى العصور الإسلامية الأولى عندما كان العراق موطنا لمدرسة الرأي المعتمدة على العقل.
وللمدرسة التاريخية العراقية خصائص أبرزها الجدية، وصدق الاستنتاج، ودقة الملاحظة، وسعة الاطلاع، والصراحة، وعشق الحرية الفكرية، والإيمان بفكرتي العدالة والتقدم. وليس هذا غريبا عن العراق بلد كلكامش الذي رأى كل شيء. البلد الذي امتلك إرثا حضاريا عريقا امتد لآلاف من السنين، وظهر بشكل حضارات متعاقبة متعددة قدمت للبشرية الزراعة، والعجلة والعلوم ومنها الرياضيات والفلك واستمر هذا حتى في العصور اللاحقة لعصر كلكامش، فإن العراق كان حلقة اتصال بالثقافات اليونانية والفارسية.
وكان العراق القديم مهتما بالتدوين، فعلى أيدي العراقيين ظهرت "العصور التاريخية" تمييزا لها عن عصور ما قبل التاريخ، حيث أخذ الإنسان في العصور التاريخية يدون ويوثق. وعن هذا الطريق كان التواصل الحضاري الإنساني. وفي العصور الإسلامية امتلك العراقيون ناصية التاريخ والتدوين التاريخي وعرفوا التفسير الديني، والتفسير الأخلاقي، والتفسير الحضاري، والتفسير الجغرافي، والتفسير المعتمد على نظرية البطل والنخبة. وتخصص في كل هذه التفسيرات مؤرخون عراقيون متميزون ليس هنا مجال التفصيل عنهم، وأعتقد أن أية مراجعة لما كتبه الدوري في كتاب "تفسير التاريخ" الذي ألفه مع نخبة من المؤرخين تثبت كلامنا هذا.
وفي العصور الحديثة، ومنذ أن فرض العثمانيون سيطرتهم على العراق في النصف الأول من القرن السادس عشر، نجد أن العراق شهد مئات من المؤرخين الذي كان لهم دورهم الفاعل في تنشيط حركة الدراسات التاريخية، ويمكن الرجوع إلى ما كتبه سليمان فائق من تواريخ للعراق ولبغداد ولحروب العراق شاهد حي على ذلك.
التاريخ موضوع حي، لذلك لا بد أن تختلف الآراء حول مفهومه، وأسلوب كتابته، وتفسيره، وليس من شك في أن التاريخ كأزمنة وأمكنة متفاعلة مع الإنسان يتصل بشكل أو بآخر بأمرين اثنين أولهما التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وثانيهما الاتجاهات الفكرية السائدة.
في التاريخ المعاصر، أقصد في الحقبة المعاصرة والممتدة من الحرب العالمية الأولى وثورة 1920 في العراق، رأينا أن التأريخ في العراق كتب بثلاث مستويات: المستوى الاستعماري، والمستوى الوطني، والمستوى الأكاديمي. كتب ارنولد ولسن "العراق بين ولاءين"، وكتب هالدين "عصيان 1920"، وكتبت المس بل "عرض للإدارة المدنية في بلاد ما بين النهرين"، وكتب هاي وكتب سون وكل كتابات هؤلاء انطلقت من وجهة نظر استعمارية متعالية مفادها أن العراقيين غير مؤهلين لتكوين دولتهم وليس ثمة شعب عراقي بل كتل وجماعات متنافرة.
عندئذ تصدى لهم الوطنيون وسرعان ما وجدوا أنفسهم داخل إطار الكتابة للتاريخ وظهر من أسميهم أنا "المؤرخون الهواة" ومنهم السيد عبدالرزاق الحسني والعمري والغلامي والصوفي والبازركان وغيرهم. واستمر هذا حتى بدأ المبعوثون من الشباب العراقيين المتخصصين في التاريخ يعودون إلى وطنهم وتوزعوا على الكليات والمعاهد العالية.
كانت هناك سنة 1923 دار المعلمين العالية، وفيها قسم للعلوم الاجتماعية، وتأسست كلية الآداب والعلوم 1949، وظهرت جامعة بغداد وصدر قانونها سنة 1958 وبرز مؤرخون تحملوا عبء كتابة تاريخهم وفق المنهج التاريخي المتداول، وكان من أبرز هؤلاء الدكتور زكي صالح، والدكتور عبدالعزيز الدوري، والدكتور صالح أحمد العلي، والدكتور جواد علي، والدكتور ناجي معروف.

وجاءت ثورة 14 تموز 1958 وتصور الناس أن ما كتبه الحسني يكفي ولم يكن الحسني مثل الرافعي في مصر الذي أنكر على الثوار أن يعيدوا كتابة تاريخ مصر قائلا لهم: "إنني كتبته"، لكن الحسني قال إنه ولج درب التاريخ عندما لم يكن ثمة أحد يكتبه، وردد المثل الشعبي وسطره في كتابه تاريخ الوزارات العراقية "من قلة الخيل شدوا على الكلاب سروج"، ووقف الحسني مشدوها أمام رسالة الماجستير التي أعدها الدكتور مظفر الادهمي سنة 1973 وأرسلت اليه كخبير، وقال إنه لم يكن يعرف أن هناك في بغداد مركزا وطنيا للوثائق، وبدأ منذ ذلك الوقت يرتاد المركز ويذهب إلى لندن للعمل في دائرة السجلات العامة.
وعندما كنت أدرس في قسم التاريخ بكلية الآداب – جامعة بغداد أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وجدت أساتذة التاريخ مختلفين، فهناك من يؤمن بالتفسير الديني (عبدالرحمن الحجي) وهناك من يؤمن بالتفسير القومي (فاروق عمر فوزي) وهناك من يؤمن بالتفسير الماركسي (حسين قاسم العزيز) وهناك من يؤمن بالتفسير الليبرالي (فاضل حسين). ورأيت الشيء نفسه عندما عينت مدرسا مساعدا في قسم التاريخ بكلية الآداب – جامعة الموصل منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
وأستطيع أن أقول إنني من الجيل الثاني في المدرسة التاريخية العراقية، أنا ومجايليي الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية وتخصصوا بالتاريخ وبدأوا يؤتون الثمار في السبعينيات. فالجيل الأول جيل زكي صالح وفاضل حسين وصدقي حمدي والعلي والدوري وجواد علي من مواليد ما بعد الحرب العالمية الأولى. أما الجيل الثالث فهو جيل تلامذتنا من مواليد الثمانينيات أو قل أواخر السبعينيات ونحن نأمل في أن يتواصلوا مع المدرسة التاريخية العراقية الحديثة ويسهموا في تطويرها وتأصيلها.
أعود لأقول إن المدرسة التاريخية العراقية لم تقتصر على توثيق البعد السياسي من العملية التاريخية، وإنما تعدت ذلك للاهتمام بالجوانب الاقتصادية، وظهر لدينا مؤرخون أبدعوا في هذا الميدان، ولعل في مقدمتهم الدوري والعلي وعندما سُئل أحد النقاد عن ما قدمه العرب في القرن العشرين للبشرية أجاب بلا تردد كتابات الدوري والعلي في الجوانب الاقتصادية والتي أخذت مسارا عالميا إنسانيا.
اهتم ممثلو المدرسة التاريخية العراقية بالتاريخ الاجتماعي، ولدينا أمثلة على ذلك، ولنذكر الدكتورة مليحة رحمة الله وبدري محمد فهد في دراساته وتوثيقه لدور العامة. ولعل مما يفرح أن التاريخ، أقصد ميدان التاريخ في العراق، اجتذب علماء اجتماع بارزون استفادوا من التاريخ في تفسير شخصية الفرد والمجتمع العراقيين ويقف الدكتور علي الوردي في مقدمة من نقصد.
ويجري الاهتمام اليوم بالتاريخ الثقافي، وأضرب من نفسي مثلا فقد بدأت الاهتمام بالتاريخ الثقافي العراقي المعاصر، وأصدرت كتابا في هذا الاتجاه كما سبق لي أن وجهت عددا من طلابي للاهتمام بتاريخ الصحافة العراقية.
وأستطيع أن أقول إن الجيل الثاني من المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة اهتم بقضايا لم يكن الجيل الأول يهتم بها، ومثال ذلك أن جيلنا اهتم بالنفط والتعليم والبريد والصحة وسكك الحديد والأراضي. وقد استغرب الجيل الأول من توجهنا وقال لنا عدد منهم وما علاقة التاريخ بالتعليم؟ وقد كتبت أنا عن السياسة التعليمية في العراق خلال فترة الاحتلال والانتداب البريطانيين، وكتب الدكتور عماد الجواهري عن الأراضي، وكتب الدكتور نوري العاني عن النفط. وتمكنا بعد جهد ووقت ومعاناة من إقناعهم بقبول تسجيل رسائلنا.
لقد أسس المؤرخون العراقيون المعاصرون لروحية جديدة في التاريخ، ولمنهجية تتميز بالجدية والحسم في التعاطي الأكاديمي، وقدموا لنمط من الكتابة فيه الكثير من القواعد الأكاديية المأخوذة من المدرسة الإنكليزية وخاصة مدرستي كمبردج واكسفورد، وكان لهم إسهامهم الفاعل في تحري الحقيقة ولاشيء غير الحقيقة. ويقوم هذا الأسلوب المنهجي على الاهتمام بالتنصيص، أي البحث عن النصوص وتحليلها، وتثبيت المصادر الأصيلة وتقييمها، وكتابة الحدث كتابة ليست سردية وإنما تحليلية.
وسمعت من أستاذي الدكتور زكي صالح عندما درسني في قسم الشرف قبل قرابة نصف قرن أن للتاريخ طبيعة ثلاثية، فهو علم وأدب وفلسفة، والمؤرخ لا يدعي أنه فيلسوف، وقد رفض توينبي أن يسمى فيلسوفا، لكنه أي المؤرخ يستفيد من الفلسفة ليحلل ويفسر ويعلل ويحتاج المؤرخ إلى الأدب لكي يقدم ما يكتبه بليغا واضحا مفهوما للناس.
والمؤرخ أولا وأخرا لا بد أن ينتهج المنهج العلمي، أي لا بد أن يخطو خطوات البحث التاريخي، ويصل إلى الحقيقة، ابتداء من التفكير بالموضوع، وتسجيله، وجمع المصادر، وتفكيك النصوص وانتهاء بالتركيب وإعادة تشكيل الحدث كما وقع بالضبط على حد تعبير المؤرخ الألماني رانكة. ولقد سعت المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة لأن تبحث عن أسس ومفاهيم ومصطلحات تتواءم ليس مع أصول البحث العلمي الغربي والذي له جذوره في قواعد مصطلح الحديث العربية، وإنما مع أصول التاريخ العربي والإسلامي وحيثياته إلى درجة أن بعضا من رواد هذه المدرسة دعا إلى الالتزام بتحقيب التاريخ العربي والإسلامي كما فعلنا في موسوعة الموصل الحضارية حين قسمنا عصور التاريخ إلى مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة ظهور الإسلام، ومرحلة الركود والانكسار، وأخيرا مرحلة النهضة الحديثة.
ولحسن الحظ فإن من رواد المدرسة التاريخية العراقية، وأخص بالذكر الدكتور جعفر خصباك والدكتور عبدالمنعم رشاد والدكتور محمد صالح القزاز قد اهتم بالفترة المظلمة أو الفترة المظلومة وهي الفترة المحصورة بين سقوط بغداد على يد المغول سنة 1256، والسيطرة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر. وقد سعوا من أجل تشجيعنا على ولوج هذا اللون من الدراسات التاريخية.
كما أن بعض رموز هذه المدرسة رفض منذ أواسط السبعينيات الفكرة التي لا تسمح بتناول الحدث إلا بعد مرور 25 -30 سنة على وقوعه، وأصبحوا يدرسون التاريخ المعاصر إيمانا منهم بمقولة المؤرخ البريطاني سيلي: "التاريخ سياسة ماضية والسياسة تاريخ حاضر"، وكذلك بفكرة المؤرخ ادوار كار التاريخ كله تاريخ معاصر، وأن التاريخ ليس إلا حوار متصل بين المؤرخ ووقائعه.
والمدرسة التاريخية العراقية - كما علمنا أساتذتنا من الجيل الأول تنظر إلى الوطن العربي نظرة شمولية أفقية فاهتمامها بالمشرق العربي كاهتمامها بالمغرب العربي، وقد اختطت لنفسها خطا جديدا يتمثل في توجيه الدارسين في العراق نحو المغرب العربي والأندلس. ولدينا اليوم كتابات متميزة لمؤرخين عراقيين اهتموا بتاريخ المغرب والأندلس من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية. لنتذكر عبدالرحمن الحجي وخليل السامرائي وعبدالواحد ذنون وناطق مطلوب ومزاحم علاوي، وفي التاريخ الحديث محمد علي داهش وخيرية عبدالصاحب وادي.
ومع أن المدرسة التاريخية العراقية اهتمت بالتاريخ العربي، وبحركات التحرر، والعالم الثالث، وبالقضية الفلسطينية إلا أنها لم تهمل التاريخ الأوربي الوسيط والحديث والمعاصر فضلا عن التاريخ الأميركي، وتاريخ الهند والصين وأفريقيا وجنوب شرقي آسيا. وللتذكير فقد كان التاريخ الأوروبي في زماننا، أي عندما كنا نخطو خطواتنا الأولى في التخصص بالتاريخ، يحتل نسبة كبيرة من المنهج. تصوروا عندما كنا في الكلية كنا ندرس تاريخ الدولة العثمانية ضمن مادة تسمى الشرق الأدنى الحديث، وعندما أصبحنا أساتذة صرفنا همنا لدراسة "تاريخ الوطن العربي في العهد العثماني".
والمدرسة التاريخية العراقية هي من أولى المدارس العربية التاريخية التي اهتمت بالخليج العربي الحديث والمعاصر. ولعل أول من وجه الطلبة لدراسة تاريخ الخليج العربي هو الدكتور زكي صالح عندما دفع الدكتور محمود علي الداؤود والدكتور عبدالأمير محمد أمين لاختيار "الخليج العربي" موضوعا لأطروحاتهم في خارج العراق.
والمؤرخ العراقي المعاصر - مع أنه ملتزم بالمنهج التاريخي ومصر على تطبيقه بحذافيره - فإنه وطني وقومي يحب محلته وبلده وأمته ويحب الإنسانية، إنه غير شوفيني يؤمن بأن البشر إخوة، وأن عليه أن يسجل الأحداث من غير أن تكون لديه أفكار مسبقة. وهو في هذا يغوص في الأحداث ليستخرج القاعدة أو النظرية أو الرأي لا أن يضع القاعدة ثم يأتي بالأحداث لدعمها.
اعتقد في ختام هذه الملاحظات أن الضرورة تقتضي، تقصي منجزات المؤرخين العراقيين المعاصرين والسعي باتجاه التعريف بسيرهم وتوجهاتهم. واسمحوا لي أن أزف إليكم خبر صدور الجزء الأول من موسوعتي التي بدأتها إلكترونيا من خلال مجلة "علوم إنسانية" التي تصدر في هولندا، وانتهيت بها ورقيا، وأقصد "موسوعة المؤرخين العراقيين المعاصرين"، وهي متاحة على الشبكة العنكبوتية، وأدعو كل من يريد أن تسجل نشاطاته ضمن هذه الموسوعة في أجزائها الأخرى أن يستجيب للطلب فيقدم إلينا سيرته الذاتية والعلمية ورؤيته للتاريخ وأعماله ليتسنى إعدادها وضمها إلى الأجزاء التالية من الموسوعة.
*http://www.middle-east-online.com/?id=110266

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين

  كريم منصور........... والصوت الذهبي الحزين ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل  لا ابالغ اذا قلت انه من ال...