الاثنين، 24 نوفمبر 2014

ذكريات الاستاذ سامي مهدي الحلقة (53) بعنوان :"خصومات "

ذكريات  الاستاذ سامي مهدي الحلقة (53) بعنوان :"خصومات " 
********************************************************

يندر أن تجد أديباً عراقياً لا خصوم له في الوسط الأدبي ، بغض النظر عن الأسباب . وأنا واحد ممن كان لهم خصوم ، رغم كثرة ما لي من أصدقاء ومحبين . كانت خصوماتي ، إما لسبب سياسي ، أو لخلاف أدبي ، أو لنفور شخصي ، أو لأسباب أخرى لا أستطيع تحديدها ولكن قد تكون الغيرة أحدها . وأحياناً كانت الأسباب تختلط فلا أدري أيها الغالب على الخصومة . وكان أشد الخصومات ما وقع بيني وبين الشاعرين الكبيرين سعدي يوسف وفاضل العزاوي . غير أنني أزعم بأنني لم أبادر أديباً بإساءة لأي سبب من الأسباب . فأنا أحرص على بناء علاقات ودية مع سائر الأدباء والكتاب ، بغض النظر عن أعمارهم وقاماتهم الأدبية ، وعن اتجاهاتهم السياسية والفكرية والفنية .
لا أزعم أنني كنت سهلاً وبسيطاً ، فمن كان يبادرني بإساءة بيّنة كنت أرد عليه دون تلكؤ ، وقد أقسو في الرد إذا خشنت إساءته ، ولكنني لم أنكل بأحد قط ، ولم أخرج بالخصومة عن إطارها الأدبي . وحتى الرغبة في الرد تلاشت عندي مع تقدم العمر ، وأصبح الترفع والتغاضي ، منذ زمن بعيد ، هما ردي الأمثل في غالب الأحوال . 
كان مكتبي في كل صحيفة ومجلة عملت فيها مفتوحاً للأدباء والكتاب يلا استثناء ، أستقبلهم فيه وأرحب بهم بلا تردد ، ورغم كل المشاغل . وكنت أتسلم منهم مباشرة ما يريدون نشره دون أي شعور بالضيق ، وكان بعضهم لا يطمئن على مادته إلا إذا سلّمها إلي ، بل أن بعضهم كان يتذرع ببعد المسافة بين بيته والصحيفة التي أعمل فيها فيأتيني إلى المقهى وبسلمني مادته وأنا جالس بين أصدقائي فأتسلمها منه بكل توقير لأنشرها له في الوقت المناسب . ولم أفرق في كل ذلك بين أديب معروف وأديب مغمور ، ومن هو مقيم في بغداد أو قادم من إحدى المحافظات ، وبين من أعرف ومن لا أعرف ، ومن سمعت باسمه ومن لم أٍسمع ، ومن قرأت له ومن لم أقرأ . غير أنني كنت لا أنشر أية مادة ما لم يتوفر فيها الحد الأدنى من الجودة في الأقل ، وهذه صفة معروفة عني في ما أظن .
وفي واقع الحال أنني ساعدت كثيراً من الأدباء بغض النظر عن انتماءاتهم الخاصة ومواقفهم الشخصية ، ساعدتهم بمختلف أنواع المساعدات ، المادية منها وغير المادية ، وأوجدت فرص عمل لعديدين ، وجنبّت عديدين الوقوع في بعض المزالق الخطرة ، وغامرت فأنقذت عديدين من مآزق سياسية أوقعوا أنفسهم فيها ، ومكنت عديدين من الإنتقال إلى مكان عمل أفضل ، وتبنيت نشر المؤلفات الأولى لعديدين ، وسهلت لعديدين حضور المهرجانات الشعرية ، والنشر في الصحف والمجلات التي توليت رئاسة تحريرها ، وهذه الأخيرة قد تدخل في باب أضعف الإيمان .
ولكن كثيراً ممن ساعدت لم يكن يعرف أنني ساعدته ، أو عرف ذلك بعد حين . والحق أنني كنت أقدم المساعدة أحياناً قبل أن تطلب مني . أما إذا طلبت فإنني أقوم بكل ما أستطيع القيام به لتقديمها ، ومن المؤكد أنني لم أكن أستطيع تجاوز حدود إمكانياتي في بعض الحالات . حسن ، سأكتفي بذكر حالتين :
أذكر أن أحد أدباء المحافظات كان قد حصل على شهادة الماجستير في أوائل الثمانينيات ، وقدم وثائقه لنيل الدكتوراه ، ولكن موافقة الوزارة التي ينتمي إليها تأخرت لأسباب بيروقراطية حتى لم يبق على ترقين قيده سوى يوم واحد . فجاءني إلى مكتبي في جريدة الجمهورية متذمراً ومستنجداً ، فما كان مني إلا أن أتصل هاتفياً بالوزير المختص ، بحضوره ، وأخبره بما هو حاصل ، فقال لي الوزير : سأتصل بك بعد خمس دقائق . ولم تكد الدقائق الخمس تمضي حتى أتصل بي الرجل وأبلغني بأن الموافقة تمت ، وأبلغت بها الجهة المعنية في المحافظة هاتفياً ، وما على صاحبك إلا أن يراجعها في الغد لإكمال المعاملة . وهذا ما حصل ، وصاحبي اليوم أحد الأساتذة الجامعيين المرموقين ، وأحد كبار الأدباء .
وأذكر حادثة شبيهة بهذه حدثت في أواخر التسعينيات وربما في أوائل الألفية الجديدة . فذات يوم وأنا جالس بين أصدقاء في مقهى حسن عجمي ، جاء صديق آخر وقال لأحدنا بصوت مسموع : أتدري أن الجامعة قد رقنت قيد فلان لتأخره في تقديم أطروحته ؟ فاستصعبت من جانبي هذا الإجراء وسألت : ومن فلان ؟ فقيل لي : طالب دكتوراه . فقلت : إذن سأفعل من أجله شيئاً في الغد . فقيل : ولكن القرار قد صدر وانتهى الأمر ! فأجبت : إن رئيس الجامعة من معارفي ، ولي دالة عليه ، وأنا سأحاول ، فلعلي أستطيع .
كان اليوم يوم جمعة ، ولما كان الغد اتصلت في الساعة الأولى من الدوام الرسمي برئيس الجامعة المعنية ، ودخلت معه في مساجلة طويلة ، وقلت له في ما قلت : إن الدولة تكافح التسرب ، وتسعى إلى محو الأمية ، وأنتم يا سادتي تعدمون مستقبل طالب دكتوراه بجرة قلم واحدة ؟! فرد علي : هذا ليس قراري يا صديقي ، بل قرار مجلس الجامعة ، والمجلس اتخذه بعد أن مدد لصاحبك أكثر من مرة ، ولكن صاحبك ظل يفضل لعب الدومينو في المقاهي على إنجاز أطروحته والقرار الآن في طريقه إلى وزارة التعليم العالي حسب علمي . فقلت له : إعذرني إذن يا صديقي ، لم يعد لدي ما أستطيع فعله سوى أن أنشر في عدد الجريدة ليوم غد ما سأكتبه حول هذا الموضوع ! وعندئذ شعرت بأنه أسقط في يد الرجل ، فرجاني أن أتريث ، وأكد لي أنه سيبذل من جهده ما يستطيع ، ويتصل بي ليبلغني . ثم أبلغني بعد ساعة أو أكثر قليلاً بأن القرار قد سحب ، ومنح صاحبي تمديداً آخر . أما صاحبي ، الذي لم أكن قد تعرفت عليه حتى تلك اللحظة ، فقد جاءني في الصبيحة نفسها وأبلغته بالنتيجة وهو غير مصدق ، وهو اليوم مثقف أكاديمي مرموق ، يطل على الناس أحياناً من بعض الفضائيات ، فهنيئاً له .
هناك حالة أخرى حصلت في أوائل عام 1991 . كنت يومئذ مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون ، وكان الحصار قد فرض على العراق وتدنى مستوى المعيشة ، فتذكرت وأنا في مكتبي ثلاثة أدباء مرموقين من أدباء إحدى المحافظات ، وتساءلت مع نفسي : كيف يعيش هؤلاء الثلاثة الآن وهم لا مصدر لهم للعيش سوى رواتبهم التي هبطت قيمتها إلى حد كبير ؟ فما كان مني إلا أن استخدم صلاحياتي الواسعة وأعينهم بصفة مستشارين لقاء أجر شهري مقطوع يبلغ ضعف رواتبهم ، دون أن أطالب منهم أن يقوموا بأي عمل . ولكن أحدهم تبرع من تلقاء نفسه وكتب لي تقريراً مطولاً حول البرامج التلفزيونية . وقد بقي هذا الإجراء نافذاً حتى آخر أيام وجودي في هذا العمل ، ولا أدري ما حدث بعد نقلي منه .
هذه ، ولا مبالغة ، حالات ثلاث من عشرات الحالات ، أتذكرها جيداً ولكنني لا أريد أن أحرج أحداً بذكر اسمه . فقد فعلت كل ما فعلت بلا منّة على أحد ، فعلته بروح الزمالة الأدبية وأخلاقياتها ، فأنا لا أشعر بأنني تفضلت على أحد في ما قدمت له ، ولم أكن أنتظر من أحد أن يقدم لي أي مقابل لما قمت به من أجله . وأستطيع القول بثقة تامة إنني لم أتلق مقابلاً من أحد . كانت تكفيني ممن ساعدت كلمة الشكر وابتسامة الرضا . وإذا كان هناك نبلاء لم ينسوا حين تغيرت الظروف ما قدمته لهم ، وإذا كان هناك من اعترف بما قدمت له من مساعدة دون أن أنتظر منه اعترافاً ، فإن هناك من صعّر لي خده ، ومن ( غلّس ) وسكت ، وهناك من لم يتذكر ما فعلته من أجله إلا حين أراد الحديث عن بطولة من بطولاته ، ولا ضير ، فهذا عصر من لا بطولة له .
غير أن هناك من استغل تغير الظروف للتنكيل بي وحرماني من حقوقي دون أن تكون بيني وبينه أية خصومة ، أو أي خلاف ، أو حتى معرفة على المستوى الشخصي . وهناك من كان بيني وبينه أكثر من ثلاثة عقود من الصداقة ، قدمت له خلالها العديد من الخدمات ، ولكنه سبق كل المبغضين في الإساءة إلي وإلى اثنين آخرين من أصدقائه ! 
كان أبي رحمه الله يقول ( سوّي زين وذبّ بالشط ) . وقد حفظت عنه هذه الحكمة وعملت بها . وما كنت لأتذكر هذا وأكتب عنه لولا ما تحدث به أخيراً أحد الجاحدين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معنى كلمتي (جريدة ) و(مجلة )

  معنى كلمتي ( جريدة) و(مجلة) ! - ابراهيم العلاف ومرة تحدثت عن معنى كلمة (جريدة ) وقلت ان كلمة جريدة من   (الجريد) ، و( الجريد) لغة هي :  سع...