الأحد، 12 أكتوبر 2014

بشرى البستاني والادب المقاوم بقلم: د. حسين سرمك حسن

بشرى البستاني والادب  المقاوم*

 بقلم: د. حسين سرمك حسن


بشرى البستاني في معنى الادب المقاوم بقلم: د. حسين سرمك حسن
قصيدة "بعيداً عن العراق" لشبرى البستاني :
                     في معنى الأدب المُقاوم
----------------------------
                     د. حسين سرمك حسن
                         بغداد المحروسة
                           4/9/2014
القصيدة :
----------
(بعيدا عن العراق
بشرى البستاني
**
1
كل شيء يمكنُ تأجيله
إلا حضورك ،
ودمعة ساخنة
**
2
لا أستطيع أن أقول لحضورك انتظرْ
فالحربُ تلعبُ في العراءْ
وأنا غيرُ راضيةٍ عني ،
 لأني بقيتُ واقفةً ودجلةُ يبتعد
**
3
بعيداً عنك ،
لا أنامُ ولا أصحو
 وأنتظرُ الهدهدْ.
**

4
إذا كنتُ هناك أتنفسك
فماذا سأتنفسُ وأنت بعيدْ ..؟
**
5
آه .. ما أوجع أن أتنفسَ بعيدا عنكْ
عن مياهك التي تطوِّقُ ذاكرتي
ودغلكَ الذي يوشوشني
وعن الرصاص الذي لم يتعبْ من الخطيئةْ
**
6
وأنتَ بعيدٌ تبكي النخلةُ
فأضمها إلى صدري

**
7
كلما علمتني قانونَ التعودْ
يعاودُني صوتكَ مستفِزِّا:
براعتُكِ في القدرة على كسر القانونْ.
فأختارُ البراعةَ وأكسرُ القانونَ
 وأتبعك.
**
8
غيابك وِزرٌ يجثم على صدري
وِزرٌ يقطِّعُ أوصالَ صبري

آه ... من المجروحُ أنت َأم أنا ..!
**
9
على كتفيك تنفرط عناقيدُ وجعي
ويموتُ البجعُ الأخضرُ في دمي
وأظل ُّمتشبثةً بساعديك
بينما القطارُ يدهسنا.
**
10
قلتَ لي ، نولد ونموت ُفُرادى .
قلتُ ،  لماذا أنتظركَ صباحَ مساءَ إذاً.
**
11
نهرانِ يشتعلانِ في دمي
نهران من خمرٍ وشهدٍ وحمى
وترابٌ من زبرجد.

**
12
أتمرَّن كلَّ ليلٍ على جملة واحدة :
 "عذبتَتي وسأنساكْ"
أتمرُّنُ على همسِ ...."لا أحبكْ"
فمن يمحو اللاءات فجرَ كلِّ يوم
ويُثبتُ على اللوحِ المحفوظِ ... أحبّكْ..!

**
13
أرهقتْني نيرانُ عروقك
صامتةً تضرى
تمتدُّ من شجى رملك لرمل روحي
وأنت في غيابة الجبِّ تدعوني
وأنا والنخلُ والرافدانِ نتوجِّع
**
14
لا أريدُ الكنوزَ حبيبي
ولا آبارَ المحنة المسوَّمة باللعنة
لا أحبُّ طبولهم الجوفَ ،
ولا كراسي النميمة
بل أريدكَ أنت
وأريدُ الرافدينِ والنخلَ وعبيرَكْ
جذلى تتلقاني الملائكةُ والحواريون
وأنا أنتزعك من غيابة الجُب
وأدخلك ملكوتَ حبي
**
15
نجمةٌ طارقة تثقبُ بيوتَ عناكبهم.. أنا
أناديكَ ، أتوحَّد بك
 فادخلْ جذع شجري
ونم تحت أغصان قلبي
تتساقطْ حولك تراتيلهْ
بك أحيا وعليك أموتْ
يا لغة الكون التي تنزفُ أوارَها من دمي
ومن ركام عطرٍ يفوح من حدائقك
 كلما غفوتُ فضحني

**
16
لن أبايعكم فاشنقوني
واقذفوني في هاوية بين جبلين
فحين أقول يا وطني
ستعدو الغزلان في البوادي
وانهضُ مثل بانةٍ آشورية
تحملُ قنديلا بابلي

**
17
أيها الصرحُ المُمَرَّد من قوارير
المُرصَّعُ بياقوت حزني
على الذهب جعلتني أمشي
 بالياسمينِ توَّجتني
وأهديتَني الشِّعرَ مسلة
وأنينَ الحروبِ غلائلَ ليلْ
فكيفَ سأظلُّ معلقةً على مقصلةِ غيابكْ
ودوحةُ أرجوانٍ تصلُ قلبكَ بقلبي
وصمتكَ غربةٌ منفيَّةٌ بدمي
والسيمياءُ معطلةُ المحاور
ودمعُ الشوق ينفرط مرجاناً على ساعديك ..!
...................

شفتي مشقَّقةٌ وزندي نازفٌ
لكن صوتي ظل يُنشئ في الفضاء منائراً غراءَ
تصدحُ : يا عراقْ.
 

                                                        عمان / آب ، 2014 )
ملاحظة : الترقيم منّي لأغراض التحليل .
تحليل القصيدة :
-----------------
بعد الإحتلال الأمريكي البريطاني القذر لوطننا الحبيب تغيّرت كل الأشياء والمفاهيم . كان هذا حتماً . فحين تسقط الأوطان ، وتوشك على أن تختفي كحقيقة واقعية وتاريخية نابتة في الوجدان ، ينزلزل كلّ شيء ، وتتهدّد كلّ الحقائق ، ويصبح لزاماً أن يتغيّر كلّ شيء . عندما لن تبقى هناك ذكرى وطن ، فإن الذاكرة نفسها سوف يتمزّق نسيجها الذي كان متماسكا لآلاف السنين كمكوّن جمعي للشخصيّة ، ولعشرات السنين كمقوّم فردي للوجدان الشخصي . الوطن الذي يحدّد اسمك وملامح شخصيتك في تميّزها عن العالمين هو الذي يجعلك "مواطناً" ، وفي العمق هو الذي يجعلك "إنساناً" . الإنسان بدون وطن حيوان سائب ، وهذا ما تريده العولمة كشرط أساس لتحقيق غاياتها ؛ إلغاء "حدود" الأوطان ، ومن ثمّ ابتلاعها في كرة أرضية أكبر تصبح "زريبة" للحيوانات البشرية . وهذه النظرة محكومة في جذورها بعنف التأسيس للولايات المتحدة الأمريكية التي كان اسمها الأول هو "إسرائيل" ، ومن هنا تطابقها النفسي مع الكيان الصهيوني اللقيط . ولهذا تجد الولايات المتحدة – وبفعل النشأة والسيرورة الدمويّة العنيفة – لا تكتفي إلا بتدمير أي شيء تصله يدها ، وبروح ساديّة بشعة ، ومهما كانت النوايا التي تعلنها تكون النتيجة خراباً ودماً ودمار . ولهذا فإن مشروعها التغييري الديمقراطي في العراق لا يمكن أن يتوقف إلّا عند المحطّة الجهنميّة الأخيرة ، وهي إفناء العراق شعباً وأرضاً .. هذه يد الشيطان وإرادته ، ونزعة غولة العالم السفلي التي ابتلعت كلّ شيء . عودوا واقرأوا كيف استخدمت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين ضد اليابان - بلا سبب - فقد وضعت الحرب أوزارها ، واختار القادة الأمريكان مدينتين تحيط بهما سلاسل جبلية ليكون الشواء البشري كاملاً . الدولة الشيطان .. حتى الشيطان محكوم برقابة الله .. لكن هذه الدولة لا يحكمها أي شيء غير المسدس والدولار . وأشدّ ما يغيضها هو الحديث عن التاريخ ؛ التاريخ عدوّها ، هي الدولة التي تحبو بعمر أقل من أربعة قرون مقابل بلد مثل العراق ينتصب على عشرة آلاف سنة وأربعة حضارات مهولة . ولهذا فإن ما يهدّده المشروع الأمريكي في العراق هو العراق كلّه : الأرض والشعب .. وما يبغيه هو الإجتثاث الكامل للإثنين ؛ الشعب من خلال اليورانيوم المنضب الذي يبقى في التربة لمدة أربعة آلاف سنة وهذه حقيقة علمية ليقضي على الشعب بالسرطانات والتشوّهات والتخلف العقلي . والأرض عبر التمزيق والفدرلة الديمقراطية التي أسّس لها "بول بريمر" عليه لعنة الله . إلعنوه فلعنته مقاومة ، وشتم الولايات المتحدة وبريطانيا مقاومة . ولكن ليست القصيدة التي تهجو الأمريكان والبريطانيين الخنازير الغزاة الذين قضوا على حاضر ومستقبل وطننا هي القصيدة المُقاومة حسب . يجب أن تتغيّر نظرتنا إلى معنى الأدب المقاوم . كل ما يُكتب معبّراً عن التمسك بحقيقة قد تصبح حلماً اسمها العراق هو أدب مقاوم ، مهما كان جنسه أو حجمه أو نوعه .. كلّ ما يُكتب وهو ينادي بالدعوة للتشبث بالحياة في وجه الموت ، وبالجمال في وجه القبح في العراق - الآن - هو أدب مقاوم . وعليه فإن قصيدة الشاعرة "بشرى البستاني" : " بعيداً عن العراق" (1) ، والتي كتبتها وهي في عمّان (في آب من هذا العام 2014) كنشيج حارق شوقاً لوطنها الحبيب المعذّب : العراق ، هي قصيدة مُقاومة بنفس مستوى قصيدتها : "القطار يواصل الصفير" الذي تصوّر فيه عذاباتها وخسارات وطنها الجسيمة في ظل احتلال الأوغاد الأمريكان والبريطانيين .
كتبت الشاعرة "بشرى البستاني" قصيدتها الأولى "بعيداً عن العراق" ، وهي في عمّان على مرمى عصا من بغداد المحروسة المجرّحة . وأتذكر أنني كتبت ولحّنت أغنية "بلاد الغربة" للفنان "سعدون جابر" ، وهي عن البعد عن العراق وضيم المنافي ، وكنت حين أغنيها بصوتي تقول أمّي الشهيدة متأثرة : "يمّه .. أنت في الديوانية وتبكي على العراق .. شلون إذا سافرت للخارج ؟" . وبشرى البستاني تبكي على العراق وهي في عمّان ، ولا أعلم ما الذي سيصيب قلبها حين يبتلعها منفى يبعد آلاف الأميال عنه ! إنّها "مُجبرة" على هذا الحال المؤسي :
(كل شيء يمكنُ تأجيله
إلا حضورك ،
ودمعة ساخنة) (المقطع الأول) .
ما لا يمكن تأجيله هو هذا "الأنت" المُكمّل للوجود . خطاب "الأنا" الموجّه نحو "الانت" هو خطاب الأرواح اللائبة المُحاصرة ؛ الخطاب الذي ورثه الشعر عن الأسطورة . (إن الشيء ، الـ "هو" يمكن دائماً أن يُقرن علميّاً بأشياء أخرى ، وأن يبدو جزءاً من مجموعة أو سلسلة . وعلى هذا النحو يصرّ العلم على رؤية الـ "هو" . ولهذا يستطيع العلم أن يتفهم الأشياء والحوادث إذ تتحكم بها قوانين عامة تجعل في المقدور التنبؤ بسلوكها في ظروف معطاة . بيد أن "الأنت" فريدٌ فذّ . إن "للأنت" شخصية الفرد التي لا سابقة لها ولا موازي ، ولا يمكن التنبؤ بها ؛ إنها وجود لا يُعرف إلا بمقدار ما يكشف عن نفسه . و"الأنت" فضلاً عن ذلك ، ليس مجرد موضوع للتأمل والفهم ، بل إن الإنسان يجرّبه عاطفياً شاعراً بعلاقة حركيّة متبادلة . ولهه الأسباب تجد تبريراً للفكرة القائلة "ليس للإنسان البدائي إلا اسلوب واحد للتفكير ، وأسلوب واحد للتعبير ، وأسلوب واحد للكلام – الأسلوب الشخصي" وهذا ليس معناه (كما يحسب الكثيرون) أن الإنسان البدائي ، حين يحاول تفسير الظواهر الطبيعية ، يغدق على عالم الجماد صفات إنسانية . إن الإنسان البدائي لا يعرف عالماً جماداً أبداً . ولهذا السبب عينه ، لا "يشخّص" ظواهر الجماد ، ولا يملأ عالماً فارغاً باشباح الموتى ، كما تريدنا "الروحانية" أن نعتقد . فالعالم لا يبدو للإنسان البدائي جماداً أو فارغاً ، بل زاخراً بالحياة : والحياة فردية ، في الإنسان والحيوان والنبات ، وفي كلّ ظاهرة تجابه الإنسان – في قصف الرعد ، في الظلِّ المفاجىء ، في الفراغ المجهول الرهيب في الغابة ، في الحجر الذي يؤذيه فجأة عندما يعثر وهو منهمك بالقنص . ففي أي لحظة ، قد تواجهه ظاهرة طبيعية ، لا كـ "هو" بل كـ "أنت" . وفي مثل هذه المجابهة يكشف "الأنت" عن فرديّته ، وصفاته ، وإرادته . إن "الأنت" لا يـتأمل فيه هذا الإنسان بانفصال ذهني ، بل يجرّبه كحياة تواجه حياة ، شاغلاً كل قدرة وموهبة في الإنسان ، بعلاقة متبادلة . وهذه التجربة تجعل الأفكار ، وكذلك الأفعال والمشاعر ، أمراً ثانويا) (2) .
فمن الذي بقي مخلصاً لعلاقة "الأنا" بـ "الأنت" ، بعد أن اكتسحت علاقة "الأنا" بـ "الهو" ، وعرّابها العلم ، كلّ مناحي حياتنا بسبب طغيان العقل المجرّد والسلوك العلمي المادي في البحث والتعامل مع الظواهر ، من أبسطها إلى أشدها تعقيداً ، ومن الإنسان إلى الجماد والحيوان ؟
إنّه الشاعر الوريث ، وما أصعب أن تكون وريثاً كما يقول غوته ، الشاعر الذي يخاطب وطنه الأنت ، أنت "ـه" إذا جاز الوصف كحضور حيّ ساخن بل ملتهب برغم شساعة المسافات :
(لا أستطيع أن أقول لحضورك انتظرْ
فالحربُ تلعبُ في العراءْ
وأنا غيرُ راضيةٍ عني ،
 لأني بقيتُ واقفةً ودجلةُ يبتعد) (المقطع الثاني)
وإذا كانت الخطوة الأولى تعبّر عن "أنت" العام الغير محدّد الملامح ، فإن المقطع الثاني قد أنهى الأمر بمجرد ذكر اسم "دجلة" . الآن حضر العراق ، وستحضر معه حتماً مصائبه وكوارثه ، وفي مقدّمتها الغولة التي لحست قدمي وجوده : الحرب . والشاعرة المُحبّة تقف منكسرة لتحمّل نفسها إثم الإنفصال عن الحضن الأمومي ، فقد وقفت تراقب دجلة الأم ، وهي تبتعد في الوقت الذي – كما نتصوّر أنها تشعر بفعل مشتركاتنا الوجدانية والكارثية – كان عليها أن تتعلّق بأذيالها . فهي تتقلب على جمر القلق في غياب حبيبها الأكبر – لنسمّه هكذا مادامت الشاعرة قد "أنسنته" و "شخصنته" – إنّها في حالة عصيّة على التشخيص : لا تنام ولا تصحو !! وهي حالة القلق الخالص المشتعل :
(بعيداً عنك ،
لا أنامُ ولا أصحو
 وأنتظرُ الهدهدْ) (المقطع الثالث)
وسيفزع النقّأد الحداثيون - فوراً – إلى تأويل محنة "إنتظار" بشرى هذه للهدهد على أنّه "هدهد" بيكيت طيّب الذكر الذي يتحدث عن غودو ، ويقول أنها – ويا لسخريّة الحداثة – مفردة اشتقها من مفردتين عامّيتين وتعني "الحذاء االعسكري" ، ولا علاقة لها بـ GOD أي الله !! لكنه هدهد بشرى البستاني الذي هو هنا – وضمن سياق القصيدة – أهم من هدهد سليمان . فهدهد بشرى هو الرسول المستحيل الذي لا يستطيع جلب خبر أو بشارة ، لأن العراق – ولنضعه مقابل بلقيس – صار مستحيل الحضور بالنسبة للشاعرة التي لم تكن بعيدة بمسافات كونية عن بلقيسها مثل سليمان وهدهده ، بل كانت في أحضانه .. تتنفسه .. ملتحمة به .. وها هي تُلقى .. بعيداً - وبعيداً جداً - عنه :
(إذا كنتُ هناك أتنفسك
فماذا سأتنفسُ وأنت بعيدْ ..؟) (المقطع الرابع).
وفي هذا البعد تفتقد هواءها المحيي "وطنها" الذي تراه بعيداً ، ولا تستطيع أن تطوله . وبخلاف الحالة المؤسفة التي صارت إليها قصيدة النثر حين حوّلها الشعراء الذين لم يدركوا أسرارها إلى "صور" منضّدة ، صورة فوق صورة ، ليسقطوها في نفس المصيدة التي كانوا يدينون قصيدة العمود بسببها ويسِمونها بأنها قصيدة "بيوت" شعريّة منضّدة ؛ بيتاً فوق بيت ، فإن احترافية بشرى تجعلها تسبك مقاطعها عبر روابط لغويّة مباشرة أو صورية غير مباشرة . في المقطع الذي يلي (الخامس) تستمر الشاعرة في الطرق على محنة "التنفس" الموجع التي أدخلتها في المقطع السابق (الرابع) مرتبطة بما سيصبح الثيمة المركز أو اللب والنواة لمعمار القصيدة وشجرتها : البعد ، التي افتتحت بها القصيدة عبر طباقها المعنوي المتمثّل بـ "حضورك" والذي صار جناساً عبر التأجيل ، ثم عبر تعطيل الحضور أيضاً "أقول لحضورك انتظر" و "ابتعاد" دجلة في المقطع الثاني ، ثم العودة إلى لعبة البعد "بعيداً عنك" والإنتظار "انتظار الهدهد" ، المؤرقة - من جديد - في المقطع الثالث . في المقطع الخامس يكتسب البعد تصعيداً انفعالياً مؤجّجاً التضاد من خلال رعب الرصاص الذي يمحق كل شيء ، والذي – الرصاص الذي لم يتعب من الخطيئة – تؤمّن الشاعرة من خلاله حلقة ترصّ حلقات جسد القصيدة من خلال الإحالة المباشرة إلى الحرب التي تلعب في العراء ، فالإثنان يلهوان بعمل الموت الحرّ الفادح :
(آه .. ما أوجع أن أتنفسَ بعيدا عنكْ
عن مياهك التي تطوِّقُ ذاكرتي
ودغلكَ الذي يوشوشني
وعن الرصاص الذي لم يتعبْ من الخطيئةْ)
وإذا كان فعل الذاكرة قد عُرض من قبل الشاعرة "مصوّراً" ، وعبر تمثّلات غير مباشرة في المقاطع الأربعة السابقة ، فإنها – الذاكرة – تحضر في هذا المقطع – الخامس – عبر الإشارة المباشرة ؛ إشارة تكشف محنة التذكّر التي تحاصر الشاعرة في منفاها – أي مكان يحل الشاعر فيه غير وطنه هو "منفى" – حيث يحيط بها طوفان مياه الذكريات ، ملائمة بين حركة التنفس ، وموجات المياه التي تطوّق الذاكرة ، وحركة الدغل التموّجية التي "توشوش" روح الشاعرة .
وإذا لاحظتَ الإيقاع النفسي للصور والمفردات والجمل في المقاطع الخمس السابقة ، بل وفي القصيدة كلّها ، ستجده ذا حركة "موجيّة" بين الحوار الهاديء الجريح والإحالات العنيفة الحادّة ؛ إنّه أشبه بحركة تنفس إنسان مكمود محتصر بين شهيق عميق يسحب فيه العراق إلى أعمق أعماق روحه ، وزفير ناقم على الحياة الجائرة التي طحنت محبوبه وأبعدته عنه . تعود هذه الحركة التموّجية المؤلمة إلى "الإستقرار" نسبياً في المقطع اللاحق – السادس – حين تجد الشاعرة شيئا من التعزية وهي تحتضن النخلة التي صارت تبكي بدورها أيضاً لبعد العراق . أي نخلة في أي مكان هي علامة على الحبيب البعيد المرمي في جبّ الوحشة :
(وأنتَ بعيدٌ تبكي النخلةُ
فأضمها إلى صدري)

وبكاء النخلة – كما هو واضح – هو بكاء "مُسقط" من أعماق الشاعرة المثكولة  ، إنّه الدمعة الساخنة التي "هدّدت" بها في المقطع الإفتتاحي ، وهو حركة التنفس المختنقة وقد تراكمت عبر المقاطع السابقة ، وتحشرجت ، وانبثقت بقوّة لن يكتمل تأثيرها إلّا بعمل المخيّلة – مخيّلة القارىء النشيطة واستجابته المتفاعلة والمتعاطفة – حين "يتصوّر" الكيفية التي تحتضن بها الشاعرة النخلة الباكية المُنكسرة . لقد كسرت الشاعرة قانون "التعوّد" المهادن ، لصالح براعة الاسى والحزن المتفجّر الطافح بالولاء .. لم تعدْ ترقب – عزلاء مُنخذلة - دجلة وهي تبتعد ، بل تتبع الحبيب الذي يوقعها هو نفسه في معضلة تضاد موقفها الوجودي بين جسارة البراعة وتبعية القانون الباردة :
(كلما علمتني قانونَ التعودْ
يعاودُني صوتكَ مستفِزِّا:
براعتُكِ في القدرة على كسر القانونْ.
فأختارُ البراعةَ وأكسرُ القانونَ
 وأتبعك) .
ولاحظ – لأن الشعر يُكتب أصلاً في "القلب" لا في العقل ، وإلى "القلب" وليس إلى العقل – كيف هبط هذا المقطع السابع بشحنة القصيدة الملتهبة لأنّه كان عملاً ذهنيّاً ، مُخطّطاً ، متقناً ، لا عاطفياً ، محتدماُ ، وتلقائياً مُرتبكاً ، ومكتوباً بمداد القلب الممزّق . لكن القصيدة تعود لتنهض بشحنتها الإنفعالية العارمة من جديد في المقطع التالي – الثامن - :
(غيابك وِزرٌ يجثم على صدري
وِزرٌ يقطِّعُ أوصالَ صبري

آه ... من المجروحُ أنت َأم أنا ..!)
عبر هذا "التماهي" المميت بين الشاعرة وحبيبها العراق ؛ العراق الذي لا يسلم من تبعات حبّه المدوّية أي مُحبّ يتورّط في حبّه.. ثم يقع في مصيدة "غيابه" هو الغائب والمضيّع دائماً . عادت – في هذا المقطع - لغة القلب – والشعر لغة القلوب المقطّعة – صافية ساحقة لتصعد موجتها الحارقة من جديد إلى ذروة ملتهبة تعبر لحظة "الإحتضان" ، احتضان النخلة الحزينة الباكية ، إلى التوحّد الكامل :
(على كتفيك تنفرط عناقيدُ وجعي
ويموتُ البجعُ الأخضرُ في دمي
وأظل ُّمتشبثةً بساعديك
بينما القطارُ يدهسنا) .
وبعد لحظة هبوط وجيزة يتساءل فيها القارىء – في هذا المقطع التاسع - عن موئل البجع الأخضر في بلاده المحترقة ، تشتعل القدرة التصويرية لتصل ذروة ساحقة في المشهد الذي تتشبّث فيه بشرى بساعدي حبيبها رفضاً لبعده وفراقهما ، فيدهسهما قطار الزمن سويّة ، هي عبر البعد القسري حيث ينقلها قطار الهجران السريع و "ترحل" عبره حيث "الرحيل يعني قليلاً من الموت" كما تقول الحكمة القديمة الباهرة ، وهو – المحبوب - عبر قطار "التغييب" الجائر المُعتاد الذي لا حلّ له لدى الحبيبة سوى الموت معاً في تلك اللحظة الشعريّة ، والتي – وهذا ما أقصده بالتفكير الشعري الكامن في "القلب" – سوف "تنسرب" بهدوء في المقطع التالي – العاشر - وعبر "التصوير" الشعري ، وهذا واجب الشاعر :
(قلتَ لي ، نولد ونموت ُفُرادى .
قلتُ ،  لماذا أنتظركَ صباحَ مساءَ إذاً ؟!).
فهذا "القانون" الذي وضعه المحبوب المتجبّر ، وهو أن تقابل الحبيبة والمحبوب مصائرهما فرادى كما هو مرسوم بإرادة "المُثكل" ، تكسره روح "البراعة" الشعريّة التي تضع "قانونها" بأن : نموت معاً ملتحمين حتى الموت ، وعبر موت مقسّط يمثله الإنتظار المديد المُتطاول – وبلا رجاء - صباح مساء . وإذا كنتَ ايها الحبيب الجائر – وكما يقول لسان الشاعرة الصريح – تضع قانون "الموت فرادى" ، فلماذا هناك نهران – وهما نهراك - يستعران في دمي "الوحيد" ؟! :
(نهرانِ يشتعلانِ في دمي
نهران من خمرٍ وشهدٍ وحمى
وترابٌ من زبرجد) (المقطع الحادي عشر ) .
باستقبال الشاعرة المازوخي (اشتعال الدم ، واختلاط الخمر والشهد بالحُمّى) الآسر لنهري الحبيب المتمنّع يصولان في دمها ، تكسر من جديد ، بروح "الإبتكار" الشعرية التعرّضية المُباركة ، "قانون" مُضاف من قوانين التعوّد . وعمليّة تكسير القوانين بالإبتكار هو سرّ بقاء هذه الشاعرة العاشقة وجوهر علاقتها المتضادة المعذّبة ؛ تلك العلاقة المُحيّرة  - وهي أنموذج لعلاقتنا المُربكة والمُحيّرة – جميعاً نحن العشّاق المقهورين - بهذا الحبيب المتعالي الجائر الخرافي الحضور والأسطوري الغياب – فنحن مثلها "نتمرّن" كل ليلة على "قانون" الهجران والبعد ونبذه .. ولكن !! هذه الـ "لكن" التي تعيدنا إلى المراوحة  - في المقطع الثاني عشر - على جمر الحيرة والتضاد الحارق ، مفروضة بقاعدة "ابتكار" للولاء الأعمى البديع :
(أتمرَّن كلَّ ليلٍ على جملة واحدة :
 "عذبتَتي وسأنساكْ"
أتمرُّنُ على همسِ ...."لا أحبكْ"
فمن يمحو اللاءات فجرَ كلِّ يوم
ويُثبتُ على اللوحِ المحفوظِ ... أحبّكْ..!) .
ووعيدنا التدريبي بالنبذ والخلاص " لا أحبك " تأتي "همساً" حييّاً ، في حين نصحو على عهد الحب " أحبّك " وقد تثبّت في اللوح المحفوظ ، وهو السجل الذي فيه عِلْم الله وتقديره (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) .. فأين المفرّ ؟ وأيّ قوة ما ورائية إلهيّة تلك التي تتكفّل بمحو لاءات التمنّع السود من دون أن ندري ؟!! تمحوها لنعود إلى حلقة العذاب المفرغة التي لا نهاية لها ، هذه القوّة الماورائية المتجبّرة لا يمكن أن تُرصد ولا تُردّ ، فوشائجها الأخطبوطية تمتدّ خفيّة مستترة إلى أرواحنا من روح الحبيب المُضيّع حتى وهو مُلقىً في غيابة الجبّ :
(أرهقتْني نيرانُ عروقك
صامتةً تضرى
تمتدُّ من شجى رملك لرمل روحي
وأنت في غيابة الجبِّ تدعوني
وأنا والنخلُ والرافدانِ نتوجِّع) (المقطع الثالث عشر) .

صارت محنة البعد والغياب أكثر ظلمة وجوراً والحبيب ملقىً في غيابة الجبّ بلا رحمة وحيدا مستوحشاً بلا عون . لم تعد المحنة ممثّلة في "بعد" المحنة حسب ، بل في "عمقها" السحيق أيضاً ، والأنموذج المُقتدر الذي رسمنا له هالات القدرة الخارقة على "الإنقاذ" في أحلامنا وخيالاتنا وقصائدنا التي هي أحلام يقظتنا ، ها هو يُرمى بقسوة في جبّ الشدائد الفاجعة .
وبهدوء – ومن دون أن نشعر – يتحوّل خطاب "الأنا" الشاعرة الذي استولى على صوت الخطاب من البداية وحتى الآن ، إلى خطاب "النحن" المضيّعين المفجوعين ، فنحن لا نريد كل كنوز الدنيا ، نزهد فيها ، بل نحتقرها ، نريد حبيبنا الذي لا وجود ، ولا كرامة ، ولا قلوب نابضة ، ولا أرواح حيّة ، ولا أعمار ، لنا من دونه . كذلك نقلتنا الشاعرة – وببراعة ومكر هادئين – إلى الزمان والمكان المحدّدين ، زمان ومكان الشدّة الفاجعة التي تحاصر حبيبنا وتهشّم وجوده ، لتحاصرنا وتهشمّ وجودنا معه بفعل توحّدنا به ، محنة مسوّمة آبارها باللعنة ، وطبول قتلتها جوف ، وكراسيّهم مخصّصة للنميمة . لا نريد كنوزهم – هكذا نهتف مع بشرى البستاني – نريد حبيبنا حسب .. أخرجوه أيّها الكلاب الخنازير من غيابة الجبّ .. دعونا نخرجه نحن فهو لا "يخرج" إلّأ معنا وبأيدينا فقد خبر حبّنا :
(لا أريدُ الكنوزَ حبيبي
ولا آبارَ المحنة المسوَّمة باللعنة
لا أحبُّ طبولهم الجوفَ ،
ولا كراسي النميمة
بل أريدكَ أنت
وأريدُ الرافدينِ والنخلَ وعبيرَكْ
جذلى تتلقاني الملائكةُ والحواريون
وأنا أنتزعك من غيابة الجُب
وأدخلك ملكوتَ حبي)
هكذا .. تتسيّد "النحن" كضمير وحيد موحّد يعبّر عن "قانون" تراصّ جمعي في مواجهة الموت ، نحن الذين ننتظر صباح مساء .. نحن الذين تعبنا من لعبة همس الهجران المُنخذل على الشفاه المُشقّقة ليلاً ، وتثبيت وشم الحبّ المُهلك في لحم الروح الممزّق نهاراً .. "نحن" الشاعرة .. نحن الرافدان .. ونحن النخل وعبير المحبوب الغائب والمغيّب . ويا لجسارة بشرى البستاني التي ستثقب بيوت عناكبهم كنجمة طارقة (وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب) .. ولاحظ التوظيف القرآني الهادىء والموفّق الذي يأتي متّسقاً ومعبّراً عن الدلالات البليغة ليختصر مسافات اللغة والتصوير المُمتد ، توظيف بدأ من المقطع الثالث (أنتظر الهدهد) ، مروراً بالمقطع الثاني عشر (اللوح المحفوظ) ، فالمقطع الثالث عشر (غيابة الجبّ) ، والرابع عشر (غيابة الجبّ أيضاً) ، فالمقطع الخامس عشر حيث تهدّد بشرى بالفعل الكاشف لـ (النجم الطارق) الذي سيخرق بيوت القتلة وهي أوهى البيوت ، لذلك اختارت الضوء ليتناسب الفعل مع أداة الفعل ومع هدفه ونتيجته (فلا يمكن أن تهجم على بيت العنكبوت بمطرقة مثلاً !) . وهذا التوظيف يتواشج هنا مع توظيف أسطوري من خلال دعوة الشاعرة لحبيبها (فادخل جذع شجري) محيلة إيانا إلى التحصّن الذي يجده الإله القتيل في جوف / رحم شجرة الإلهة الأم الحامي ، فقد اتسع فعل الشاعرة ، وبدأ يتصاعد ، ويتأجج ، منذ المقاطع الأولى ليتحوّل في هذا المقطع (الرابع عشر) من دور المرأة المُحبّة الراثية المُتفجعة (وهو دور عشتاري معروف) إلى دور الإلهة الأم المُنقذة التي تحاول تخليص حبيبها / ابنها من ظلمات العالم الأسفل ممثلة بغيابة الجبّ ، ولتحصّنه في رحم شجرتها الوارفة (المقطع الخامس عشر) ، وينام تحت أغصان قلبها الذي سيسّاقط عليه تراتيلاً بهيّة حامية تُسبّح بمجده :
(نجمةٌ طارقة تثقبُ بيوتَ عناكبهم.. أنا
أناديكَ ، أتوحَّد بك
 فادخلْ جذع شجرتي
ونم تحت أغصان قلبي
تتساقطْ حولك تراتيلهْ)
ليعود الإلتحام الأمثل المعبّر عن هويّة واحدة هي هويّة الأمومة الحامية المُنقذة التي يختلط دمها بدم حبيبها ، مثلما تمتزج دقائق وجودها بدقائق وجوده كحبيب ووليد خُلق على عينها وعلى صورتها ، فصار سبب حياتها مثلما كانت سبب ديمومته ، وهذه بالمناسبة هي الطبيعة الحقيقية للعلاقة بالأوطان ، فإن أنموذجها – مهما اختلفت التخريجات وتلوّنت التعاريف – هو العلاقة الأمومية المثلى والحانية بين الأم ورحمها الحاني من جهة ، وجنينها ثمّ وليدها وابنها الذي سوف يصبح إلهاً قتيلاً بفعل دوافع عقدة الإتقاذ اللاشعورية :
(بك أحيا وعليك أموتْ
يا لغة الكون التي تنزفُ أوارَها من دمي
ومن ركام عطرٍ يفوح من حدائقك
 كلما غفوتُ فضحني) .
لقد أثّثت بشرى البستاني قصيدتها بتعبيرات ورموز و "إكسسوارات" الأنوثة فجعلتها حديقة أو بستاناً ، وهذا من خصائص نص الأنوثة الذي من الممكن أن يكتبه الرجل المبدع حين يكون الظل الأنثوي في شخصيته قويّاً . صارت القصيدة وحركات مكوّناتها ونقلاتها المشهدية تعبيراً عن حركة الطبيعة في تجدّدها الإنبعاثي الحيّ وفي إرادتها المقاومة للفناء وهي تتحدّى الطغاة الخاطفين لوطنها ، وترفض بيعتهم حتى لو شنقوها ، فهي المحمّلة بإمكانات الولادة المقاومة والإرادة الباحثة عن الخلود ، تجدّداً تحكمه قاعدة الخلق المؤسسة من أول قصّة خليقة جرت على هذه الأرض منذ آلاف السنين وهي فعل "الكلمة التي تقول كنْ فيكون" ، والكلمة الشفرة السحرية هنا هي : "يا وطني" التي ستجعلها – وهي كذلك ، أسطورياً وتأريخياً ، وسرقت دورها الألوهة الشابة بفعل ضغوط "عقدة الإنقاذ" – تُبعث من جديد أكثر حيوية وانطلاقاً ، ووفق شكل آشوري بابلي مركّب أخّاذ  :
(لن أبايعكم فاشنقوني
واقذفوني في هاوية بين جبلين
فحين أقول يا وطني
ستعدو الغزلان في البوادي
وانهضُ مثل بانةٍ آشورية
تحملُ قنديلا بابلي) (المقطع السادس عشر) .
# درس من رسول حمزاتوف :
--------------------------
من كتابه المقدّس "داغستان بلدي" يصف "رسول حمزاتوف" تفصيلات لقائه برسام داغستاني يعيش في باريس بعد أن غادر داغستان للدراسة في روما بعد الثورة الروسية بقليل ، فيقول :
(الداغستاني الذي اعتاد قوانين الجبال يصعب عليه أن يألف وطنه الجديد . أخذ صاحبنا يهيم في أرجاء الدنيا ويحط الرحال في العواصم المتألقة تارة أخرى ، لكنه كان يحمل حنينه وشوقه حيثما ارتحل . وأردت ن أرى هذا الحنين مجسدا في الألوان فطلبت من الفنان أن يريني لوحاته .
إحدى اللوحات تحمل هذا الإسم " الحنين إلى الوطن " رسمت على اللوحة إيطالية في زي آفاري قديم ، تحمل إبريقها الفضي وعلى سفح الجبل تقع قرية آفارية من حجر ، وفوق القرية تنتصب جبال أكثر اكتئابا ، وذرى الجبال يلفها الضباب .
قال الفنان :
-    الضباب هو دموع الجبال . حين يلف الضباب سفوح الجبال ، تأخذ قطرات مضيئة تنساب على تجاعيد الحجر . الضباب هو أنا .
ورأيت على لوحة أخرى طائرا يحط على عضاهة (شجرة ضخمة ذات شوك) شائكة . الشجيرة تنمو بين الصخور العارية . الطائر يغرد ، ومن شباك البيت تحدق فيه جبلية حزينة . وحين رأى الفنان اهتمامي باللوحة ، أوضح يقول :
-هذه اللوحة اقتبستها من أسطورة قديمة
-أي اسطورة ؟
-اصطادوا طائرا ووضعوه في قفص . وأخذ الطائر يردد في قفصه ليلا ونهارا : وطني ، وطني ، وطني ، وطني ، وطني ، وطني ، وطنــــــــــــي 
هكذا أنا تماما كل هذه السنوات أردد .. وفكّر صاحب الطائر في نفسه : " أي وطن هذا وطنه ، وأين هو ؟ لابدّ أنه بلد رائع ، زاهرةٌ أشجاره ، وطيوره من أشجار الجنة وطيورها .. هيّا فلأطلق سراحه فأرى أين يطير ، وهو سيدلني على الطريق إلى  هذا البلد العجيب " .. وفتح القفص فانطلق الطائر مبتعدا عشر خطوات ثم حطّ على عضاهة كانت تنمو بين الصخور العارية . في أغصان هذه العضاهة كان عشّه .. وأنهى الفنان كلامه قائلا :
أنا أيضا أتطلع إلى وطني من شباك قفصي ) (3).
أمّا بشرى البستاني فقد اقتبست قصيدتها من أسطورة ..
-أيّ أسطورة ؟
الأسطورة التي ...
أو أقول لكم : دعوني أتركها تحكيها عليكم ، لكي تقطّع قلوبكم بعد أن قطّعت قلبي .. وهذا هو فعل الشعر العظيم .. إنّه فنّ تقطيع القلوب بالكلمات :
(أيها الصرحُ المُمَرَّد من قوارير
المُرصَّعُ بياقوت حزني
على الذهب جعلتني أمشي
 بالياسمينِ توَّجتني
وأهديتَني الشِّعرَ مسلة
وأنينَ الحروبِ غلائلَ ليلْ
فكيفَ سأظلُّ معلقةً على مقصلةِ غيابكْ
ودوحةُ أرجوانٍ تصلُ قلبكَ بقلبي
وصمتكَ غربةٌ منفيَّةٌ بدمي
والسيمياءُ معطلةُ المحاور
ودمعُ الشوق ينفرط مرجاناً على ساعديك ..!
...................

شفتي مشقَّقةٌ وزندي نازفٌ
لكن صوتي ظل يُنشئ في الفضاء منائراً غراءَ
تصدحُ : يا عراقْ ) .
تحيّة للشاعرة الكبيرة "بشرى البستاني"


هوامش :
-----------
(1)    منشورة في موقع الناقد العراقي الإلأكتروني يوم 20/8/2014 .
(2)    ما قبل الفلسفة – فرانكفورت – ترجمة جبرا ابراهيم جبرا .
(3)    داغستان بلدي – رسول حمزاتوف .



المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/09/08/341175.html#ixzz3Fv5TlG2o

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شيخ المحققين العرب الاستاذ عبد السلام محمد هارون 1908 -1988

الملك خالد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية 1975-1982 يسلم جائزة الملك فيصل العالمية للعلامة المحقق الكبير الاستاذ عبد السلام هارو...