الأحد، 19 أكتوبر 2014

بدوي الجبل.. الحرف الندي* بقلم :ا.د.سعيد عدنان

بدوي الجبل.. الحرف الندي*
بقلم :ا.د.سعيد عدنان
لعلّ أبين ما يتّسم به شعر بدوي الجبل، نداوةُ حرفه، واخضِلالُه، أيّاً كان مداره، وأيّاً كان باعثه. فإذا كان من الشعر ما تصطكّ ألفاظه كأنّها خشب قديم، فإنّ نبعاً خفيّاً لا يزال ينتظم لفظ البدوي ومعناه.
نشأ محمّد سليمان الأحمد، (بدوي الجبل)، في بيت أدب، ودين، ووطنيّة صادقة، وقد كان بيته يُعلي شأن الوطن، ويجعله قبل كلّ الشؤون، وينشّئ أبناءه على حسن محبّته؛ فلا غرو أن يشبّ محمّد على تلك المحبّة، وأن يكتوي بنارها. كانت البلاد العربيّة، يوم نشأ، تحت سلطان الدولة العثمانيّة، تريد لها أن تنأى عن عروبتها؛ لغة، وأدباً، وأن تشيع فيها لغتها، غير أنّ حواضر العلم والمعرفة كانت تزيد من تمسّكها بالعربيّة، وما يتّصل بها، وتسعى أن تحفظ على الأمّة أدبها.
ولقد كان، مع تلك الحواضر، من يسعى أن يغادر سلطة الخلافة العثمانيّة، وأن يرجع حكم البلاد العربيّة إلى أهلها، وقد التقت تلك المساعي عند الشريف حسين وثورته، وعقدت آمالها عليه. وقد رأى بدوي الجبل في الشريف ملكاً منقذاً فأصفاه محبّته، وآثره بشعره، وقال فيه في سنة 1923:
ألف أهلاً بأمير المؤمنينْ ... سيّد البطحاء والبيت الأمينْ
مرحباً بالتاج مرموق السنى ... وبربّ التاج والعرش المكينْ
بربيب المروتين المنتقى ... وفتى زمزم والركن الركين
وهو فتى في صدر حياته، أدرك العقد الثالث من عمره، أو يكاد؛ وليس قليلاً على من في عمره أن يقول مثلها، وإن تردّد فيها نغم نونيّة شوقي:
ارفعي الستر وحيّي بالجبينْ ... وأرينا فلق الصبح المبينْ
وقفي الهودج فينا ساعةً ... نقتبسْ من نور أمّ المحسنينْ
لقد كانت الثورة العربيّة الكبرى، وقائدها الشريف، طريقه إلى مزاولة السياسة، والتعبير عنها، وقد بقي يُصفي الملك حسين وأبناءه المودّة، ويقول فيهم الشعر، ولا سيّما من حكم العراق منهم.
قال الشعر في فيصل الأوّل، ورثى غازي في قصيدة من جياد قصائده، وسمَها بـ (مصرع الشمس)؛ يقول في مطلعها:
زهوةُ الفتحِ والشبابِ النجيدِ ... من سقى الفجرَ من دماء الشهيدِ
خَضَبتْ غرّةَ الصباح فقد ... نمّ عليها بالعطرِ والتوريد
قدرٌ أنزل الكميّ عن السرجِ ... وألوى بالفارسِ المعدودِ
وقال يوم تتويج فيصل الثاني في سنة 1953 قصيدة عامرة فرحة، استعاد فيها، وهو منتشٍ، ما كان بينه وبين أسرة الشريف، وما كان لهم عليه من يد؛ يقول في مطلعها:
شادٍ على الأيك غنّانا فأشجانا ... تبارك الشعرُ أطياباً وألحانا
ترنّح البانُ واخضلّت شمائلُه ... فهل سقى الشعرُ من صهبائه البانا
وقد كانت للجواهريّ في حفل التتويج نفسه، قصيدة فرحة أيضاً، عامرة، مستعيدة في مورد منها ما كان لجدّ المتوّج، ولأبيه، من يد على الشاعر؛ يقول في مطلعها:
ته يا ربيع بزهرك العطر الندي ... وبصنوك الزاهي ربيع المولدِ
باهِ السما ونجومَها بمشعشعٍ ... عريان من نجم الربى المتوقّدِ
لكنّ الجواهريّ ما أسرع ما ندم عليها، وأسقطها من ديوانه، وصارت عنده مبعث غصّة لا تفارقه، ولعلّها كانت في صميم بواعث قصيدته: (كفّارة وندم)، ولعلّها كانت تملأ عليه نفسه وهو يقول، من بعد سنين:
وحسبك ركعةٌ عرضتْ ... وكم من راكعٍ سجدا
بل إنّها في نسيج الندم الذي لا يفتأ يعاوده؛ فيقول فيه:
ندمٌ في إثره ندمٌ ... عظُمتْ كفّارةُ الندمِ
حتّى لكأنّه لم يقل، من قبل، شيئاً في أحد من الملوك، أو لن يقول، من بعد، في ملك هاشميّ، وذلك من عجيب أمره!
غير أنّ بدويّ الجبل لم يندم على قصيدته، ولم يُسقطها من ديوانه، بل إنّها في سياق تجربته، لا ينبو بها مكان.
وشعر البدويّ لا ندامة فيه، ولا تبكيت ضمير، على حين أنّ الجواهريّ عاش تتلعّب فيه عواصف الندم، وكفّارته، وبقي، عمرَه، مردَّداً بين الحاكم والناس، لا يقدر أن ينقطع الانقطاع التام عن أيّ منهما.
لقد زاول محمّد سليمان الأحمد السياسة على نهج وطنيّ؛ يريد سيادة الوطن، ويأبى الاستعمار، وما يتّصل به، فولي النيابة، وتقلّد الوزارة، وأضطرّ، في زمن آخر، إلى المنفى؛ لكنّه في كلّ أحواله ظلّ لا يقول الشعر إلّا نقيّاً صافياً، في طبقة رفيعة، معرباً عن أصدق ما لديه. وهو، من بعد، من أقدر الشعراء على جعل حوادث السياسة، وما يكون منها بسبب، شعراً خصب الخيال، متدفّق العاطفة، متين اللغة. وكأيّن من شاعر برُد قصيده، وتفكّك نسيجه، إذا ما رام القول في شأن عام!
وهو جهير الصوت في مقام الجهارة؛ يجهر، ويدنو من التصريح إذا ما مسّه طغيان، وحسبك منه قصيدتاه: (كافور) و(فرعون)، ومتّكؤه ثقته بنفسه وبشعره؛ يقول:
الخالدانِ - ولا أعدّ الشمس - شعري والزمانُ
وإنّه لقادر على أن يُدني البعيد، ويجعله ممازجاً نفسه، منبثقاً عنها، وأن يقول في القضيّة العامّة قوله في القضيّة الخاصّة، من دون أن تهي عنده متون القول؛ يقول في مقام الرثاء متذكّراً أصحابه في قضيّة الوطن وتمام استقلاله:
لا تسلها فلن تجيب الطلولُ ... المغاوير مثخنٌ او قتيلُ
موحشاتٌ يطوف في صمتها... الدهرُ، فللدهر وحشةٌ وذهولُ
غاب عند الثرى أحبّاء قلبي ... فالثرى وحده الحبيب الخليلُ
وكلُّ شعره، أيّاً كان مبعثُه، ندٍ، خضل، يتخلله ضياء ينفي وحشة الحزن، ويخفّف وطأة الأسى؛ يقول، وأشباح الغربة مطلّة عليه:
سلي الجمر هل غالى وجُنّ وعذّبا ... كفرتُ به حتّى يشوق ويعذُبا
ولا تحرميني جُذوةً بعد جُذوةٍ ... فما اخضلّ هذا القلب حتّى تلهّبا
إنّ منافذ الماء والضياء إلى شعره لتزيد في رونق ديباجته، وقلّما خلت قصيدة له منهما، وهما مادّته في مواطن الثناء؛ يقول في أبي العلاء، مهوّناً من العمى:
من راح يحمل في جوانحه الضحى ... هانت عليه أشعّة المصباح
ويقول في قبور أحبّته:
ظمأى ويندى ثراها لوعة وهوى ... إذا ألمّ بها من غربتي خبرُ
وكثير من أشباه ذلك ممّا جعل الماء والضياء، وما يتولّد منهما، مادّة في نسيجه.
إنّ بدويّ الجبل نبع من الشعر عذب المورد، وإنّ حرفه شاميّ خضل!
*http://www.alaalem.com/جريدة العالم الالكترونية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...