الخميس، 16 أكتوبر 2014

وتبقى الكلمة شعر: د. زكي الجابر


وتبقى الكلمة
شعر: د. زكي الجابر
إعداد وتعليق: د. حياة جاسم محمد(زوجة الشاعر رحمه الله )
عراقيات
وداعاً .. أيها البصرة*
وداعاً يا من ذُبِحتِ ألف مرّة
وبُعثتِ من قاعِ الموتِ ألف مرّة
أنتِ يا من تولدين من جديد
مع كلّ صباحٍ جديد
نخلةً باسقةً ..
ترتدي قميصَ الشعرِ
وتنثرُ جدائلَ السعفِ للغضب
والريح ..
والثورة الدائمة!
*******
أتلكَ أشرعة سفائن السندباد
يعود من رحلته السابعة
أم رايات أميرك ’’الخزعلي‘‘ الجميل
ترفّ عليها أجنحة النوارس التائهة
ما بين نخيل ’’المحمّرة‘‘
وضفاف ’’الكارون‘‘
وأرياف ’’أبي الخصيب‘‘!!
وتلك جنّة ’’عدن‘‘
أم سرير الماء
يحتضن عليه ’’الفرات‘‘ دجلة
في عناق الأبد
بين تراتيل ’’الهلاهل‘‘
وأضواء الشموس
وتدفق الحليب من الأثداء النافرة
على سمرة شفاه أطفال ’’القرنة‘‘
*******
وداعاً .. لكلّ من غنّى إليكِ
وغنيتِ إليه،
وداعاً لكل من احتضن العود وغنّى
ولم يكن لديه من خيارٍ إلا أن يغنّي
لوعات ’’أبوذيه‘‘
’’ولا تعاشر البذّات والماله تالي‘‘!
*******
وداعاً لكل شاعرٍ كتب معلقاتهِ
على ’’كَرَب‘‘ النخيل
وقَصَبات البرديّ
وينشدها موقّعةً على ضربات الدفوف
وتراجيع اليمامات الضائعة!
*******
وداعاً يا قبّة ’’ابن الجوزي‘‘
ويا تلك السَعَفات المطلّة على نهر ’’خوز‘‘
ويا تلك العرائش السكرى برحيق العنب
وحليب ’’البرحيّ‘‘
*******
وداعاً يا ’’جسر الملح‘‘
على حصاكَ دماء الزنج
ورسوم الأقدام العارية
والمسامير المنثلمة!
تنقل الآهات عليك ..
تكسرات الغناء على شفتيّ ’’محيي الدين الرفاعي‘‘
سكران في آخر الليل
يلعن الجوع والأغبياء
وفتّاحي الفال
ومهرّبي السجاير
تصكُّ أذنيه الأصوات الوحشية
تركبُ الهواء الشرقيّ
عابرةً ’’جسر العبيد‘‘ إلى ’’مقام الإمام‘‘..!
*******
وداعاً .. أيها ’’الحِمريّ‘‘
يا شعاعة الذهب تتكسّر على صفحة الفضة
تعب الصيّاد
ولم يتعب الرقص!
تعب الرقص
ولم تتعب الراقصات
*******
وداعاً يا زورق ’’العشّار‘‘
العروس تحت المظلّة
وخدود المجاذيف تتهادى
تلامس خدود الموج
والصلوات تتصادى
بين صيحات النوارس وخَفَقاتِ طيور الماء
وذلكَ ’’البلاّم‘‘ يفتح صدْرَه للرذاذ
سوف توافيه ’’حَسْنَة‘‘
عروساً قمراً تحت غلالة حرير
وسعيدٌ من ضمّ صدره إلى صدر ’’بصراوية‘‘ سمراء
تُطعمه التمر المعسّل
ويسقيها ماء اللقاح
*******
وداعاً ’’أمّ البروم‘‘
لا نوم بعد النوم
موتاكِ تطاردهم سيارات الإسعاف
والفوانيس
يلّوح بها حفّارو القبور والخمّارون
وبائعات الهوى، ووكلاء ’’الشعبة الخاصة‘‘
الفلاّحون باعوا سلال الرطب
واعتكفوا يحتسون العَرَق
في الحانات الرخيصة
يميلُ بهم فيتمايلون
صوتٌ أبّح
ورنينُ عودٍ منكسر
*******
وداعاً يا ’’سوق الهنود‘‘
يا ليل العباءات المضاء
بالتماعات العيون
وهمسات المواعيد
والتوابل اللاذعة!
*******
وداعاً يا ’’مكتبة الياس‘‘
’’الياس‘‘ في السجن .. والكتب في أحباس الرفوف
ومتأدبون يفترس أعراقهم فقر الدم
عيونهم الواهنة مسمّرة على واجهة النافذة
’’الوعد الحق‘‘، ’’العائلة المقدسة‘‘،
’’آلام ﭬيرتر‘‘، و ’’هادئاً يمشي الدون‘‘
’’تحت شناشيل ابنة الـﭽلبي‘‘!
وفي الزاوية المعتمة
سيكارة ’’فيصل السامر‘‘
نجمة شرقية متقدة
آناء الليل .. وأطراف النهار
*******
وداعاً .. أيّها المتسولون
البدين الذي يبيع ابنته عند مدخل الجسر
ونصف الأعمى يترصّد حَملة المناشير
وسارقة المحفظات الخاوية
تحت ’’ساعة سورين‘‘!
*******
وداعاً .. يا مدينة العروض والمقامات
النواسيات الأولى .. وصرخات الزنج
هتافات القرامطة
وجدال الذين اعتزلوا
لا إلى هذا ولا إلى ذاك
أهذا سوق المربد أم خيام ’’النقائض‘‘
والصفقات السرية .. وشعر المناسبات الرديئة!
يا صديقي ’’محمود عبد الوهاب‘‘
المدينة الفاضلة .. امرأة عظيمة
لا يخونها من يحبّها
ولا تخون من تحب ..
فاحتفظ بالنكتة الأخيرة
للحظات الأخيرة
في الوداع الأخير ..
ثلاثون عاماً مضت و ’’عبد الغفور النعمة‘‘
يصوّر فلمه
وما زال عند اللقطة الأولى
الممثلة احتضنت عشيقها
من غير انتظار لإشارة المخرج!
*******
وداعاً يا ’’عبد الأمير عبد الرضا‘‘
ويا ’’قاسم‘‘ و ’’عبد الله النعمة‘‘
لماذا رحلتم ولم تقولوا: ’’وداعاً‘‘
لماذا تركتم ’’خضر عباس الفضل‘‘
نصف عاقل
نصف مجنون
يقرأ ’’هيغل‘‘ على صديقاته
في المبغى العام
يهمسُ في شبه إغماضة:
’’أيها الراقص في مأتمنا
شارباً صهباءه من دمنا..
لا تكن فظاً
وكن برّاً بنا‘‘
ثم يغوص في الدروب الخلفية ..
لئلا يقبض عليه عسس الليل!
*******
وداعاً .. أيها ’’الشارع الوطني‘‘
وداعاً .. يا بار ’’ماري‘‘
خلف الستارة الحمراء
عازفٌ أعمى
وكأس مغشوش
ومقامرٌ أبله
ومزوّر جوازات سفر
وشاعرٌ على حافة الإفلاس
يخطّ بيانه الأول
في ’’القرنة‘‘ التقى الفرات دجلة
فكانت الجنّة الأولى
وكان الإنسان الأول
وكانت قصيدة النثر!
وفي جيب ’’سعدي يوسف الشهاب‘‘
ربع دينار من العهد الملكي
لا يكفي لشراء ما تبقى في زجاجة ’’الرّم‘‘
في حانة ’’جبهة النهر‘‘
ومن ﮔلبي خذْ لك نار ورّث جـﮕارة ..!
*******
يا ’’قاسم حول‘‘
جفّ نهر ’’الخندق‘‘
ولم تجفَّ الدموع ..!
*******
وداعاً .. أيتها النَسَمات الباردة
في ليالي القيظ
محمّلة بروائح القدّاح
وهمسات صديقة مجهولة
في رسائل مجهولة!
لماذا يبتسم ساعي البريد
كلما سلّمني رسالة؟!
*******
وداعاً .. أيها الباكون في مآتم ’’الحسين‘‘
أفي كل عام يتناسخ ألف ’’يزيد‘‘
ولا من ’’حسين‘‘
أيها الباكون
ليس من يبكي كمن يثور
قطرةٌ من الدم تنبت نخلة
وبيدر حنطة
ونهر من الدمع لا ينبت سوى العوسج
والملح والعناكب
*******
وداعاً .. أيها البصرة
يا أطياف براءتنا الأولى
وأحلامنا الطائشة ..
طائراتنا الورقية،
كراتنا المحشوة بالخرق البالية،
قراءتنا الخلدونية
جدول الضرب
ومسطرة المعلّم
*******
وداعاً ..
غادرت النوارس
وطوى الملاّحون الأشرعة
فطواها المدّ على أجساد الجنود القتلى
وأحذية الهاربين من الجبهة
ودفاتر الخدمة العسكرية!
السفن القديمة
مصلوبة على سواحل الخليج
مقابر للأسماك الميّتة
والضفادع الهالكة ..
على الحافات المتآكلة
تقف السلاحف ..
تمدّ رؤوسها من ظلمة الدروع
لترى الشمس فلا تراها!
فتغوص ثانية في ظلمة الماء..!
التفت الطحالب على الدواسر
وأغفت الأفاعي في سلال حلاوة ’’مسقط‘‘!
*******
وداعاً .. أيّها البصرة ..
علاكِ المدُّ
حتى أغرق الشطآن ..
حتى أغرق الإنسان ..
حتى أغرق الفكرة ..
فآهٍ ..
آهِ ..
يا بصرة**!!
* سبق نشر هذه القصيدة في الصفحة الثقافية لجريدة ’’المغترب‘‘ الكندية بتأريخ 31-7-2005، وأرتأيتُ إعادة نشرها لبصريّتها الحميمة.
** محيي الدين الرفاعي، عبد الغفور النعمة، سعدي يوسف الشهاب، عبد الأمير عبد الرضا، قاسم حول، قاسم وعبد الله النعمة…من أصدقاء الشاعر. تحفل القصيدة بالكثير من الأسماء، بعضها أسماء مواقع في البصرة، وأخرى أسماء أنواعٍ من تمرها وأسماكها.
تكاد القصيدة تكون سيرة مدينة البصرة، تأريخيا وجغرافيا، وهي تُضاف إلى نصوص أخرى كُتبت عن هذه المدينة، يحضرني منها ’’بصرياثا‘‘ لمحمد خضيّر (1993).
*
https://www.facebook.com/profile.php?id=100006490421184

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...