الاثنين، 13 أكتوبر 2014

سيد بن علي المرصفي شيخ شيوخ الأدب بقلم : ا.د. سعيد عدنان

سيد بن علي المرصفي شيخ شيوخ الأدب
بقلم : ا.د. سعيد عدنان

أمّا شيوخ الأدب الذين كان سيّد بن عليّ المرصفيّ شيخهم؛ فهم: طه حسين، وأحمد حسن الزّيات، ومحمّد محيي الدين عبد الحميد، ومحمود محمّد شاكر، وغيرهم ممّن كانت لهم أزِمّةُ الأدب، ومقادته في النصف الأول من القرن العشرين ؛ وكلّهم أخذ عنه، وتخرّج به.

ولد سيّد بن عليّ في قرية (مرصفا)، في سنة لا يعرفها أحد ممّن عُني به، على وجه اليقين؛ فقد أغفلها الزركلي، على شدّة تحرّيه وضبطه، وهو يكتب عنه، ويذكر وفاته في سنة: 1931، ولو كان من سبيل إلى معرفتها لاهتدى إليه صاحب (الأعلام). ولكنّك تستطيع، على وجه الظنّ، أن تجعلها عند منتصف القرن التاسع عشر، أو أن تنزل بها قليلاً؛ فلقد تُوفّي وهو عالي السن، شيخ قد وهت به أسباب الحياة، وكأنّه قد أوغل في الثمانين، وجعل التسعين بمرصد منه.

وأيّة ما كانت سنة ميلاده فقد نشأ في منتصف القرن التاسع عشر، وانتظم في كتّاب قريته، وتعلّم ماكان متاحاً من ضروب العلم؛ تعلّم العربيّة في نحوها وصرفها، وحفظ القرآن الكريم، ثمّ اتّجه إلى الأزهر، مهوى أفئدة طلبة العلم يومئذٍ، فسلك نفسه في حلقاته؛ يدرس الحديث الشريف، والفقه، والأصول؛ لكنّه كان يصغي بلبّه إلى العربيّة في علومها، وآدابها، ويهوى من كتبها: العقد الفريد، والكامل، والأمالي، وديوان الحماسة؛ يقرؤها، ويعيد قراءتها، ويحفظ الرفيع من أدبها، ويتأمّل صياغته؛ من حيث بناء ألفاظه، ومن حيث جريان المعنى فيها. وكان يقرأ، مع هذه الكتب، غيرها من آثار علماء العربيّة وأساطينها، وكان يقف عند كتابي عبد القاهر: الدلائل، والأسرار وقفة المتبصّر؛ حتّى استقامت له ملكة أدبيّة في تذوّق الكلام العربيّ، والنفاذ في أسراره. ثمّ نال شهادة تخرّجه، وعمل في الأزهر، وصار في هيئة كبار العلماء، وبقي منزعه الأدبيّ يغلب عليه، وينحو به نحو الشعر والنثر، وما يتّصل بهما.

كان الأزهر الشريف قد أشاع فيه الإمام محمّد عبده روحاً جديداً، أفضى به إلى شيء من السعة والرحابة؛ فكان من ذلك أن وجد درس الأدب متّسعاً فيه، وعرف الشعر وشرحه طريقه إليه؛ ثمّ كان من تمام الأمر أن يُسند الدرس إلى سيّد بن علي المرصفيّ فشرع يُقرئ كتاب (الكامل) لأبي العبّاس المبرِّد، ويشرحه، ويزيد عليه من الأشعار، والأخبار، ويفسّر ما بدا غامضاً، من بعد هذه القرون، ليكون الكتاب أتمّ نفعاً وأجزل فائدةً ؛ وليتكامل صنيعه، من بعد، في أثر نفيس يقيم الصلة بين مطالع القرن العشرين، وقرون العربيّة القديمة الزاهرة، وليصدر بعنوان: (رغبة الآمل من كتاب الكامل) تزينه عبارة صادقة الدلالة، بليغة الصياغة: (تأليف: نصير اللغة والأدب...) وهي لا تصدق على أحد يومئذٍ صدقها على المرصفيّ. ووقف مع حماسة أبي تمّام؛ يُقرئها، ويشرحها، ويُبيّن أسرارها، ويتذوّق حلاوة أشعارها؛ حتّى يقف تلاميذه، معه، على شعر أصيل؛ قويّ اللفظ، رفيع المعنى، قد اجتمعت فيه وجوه البيان. وليس ذلك شيئاً يسيراً، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين؛ إذ كانت اللغة مثقلة بزخرفها، والأدب كثير اللفظ قليل المعنى، والكتابة جعجعة بلا طِحن، والذوق السائد يُؤخذ بذلك كلّه؛ فليس قليلاً أن يرجع المرصفي بالأدب إلى عصوره الزاهرة، وأن يقف عند الكامل، وعند الحماسة، وأن يرغّب تلاميذه بالشعر القديم، وأن يدعوهم إلى تفهّمه، وتذوّقه. وقد كان طلبته يجدون عنده ما لا يجدونه عند غيره من الشيوخ، كانوا يجدون عنده شيئاً يتّصل بأنفسهم، ويغذّي عواطفهم، ويهذّب أذواقهم؛ فلا غرو أن أحبّوه، وأحلّوه من أنفسهم منزلة رفيعة.

كان من طلبته الذين أخذوا عنه الأدب، وتفهّم الشعر، وتذوّقه: طه حسين، والزيّات؛ وقد بقيت آثار المرصفيّ حيّة فيهما كلّما نظرا في الشعر العربيّ القديم. وكان طه حسين لا يفتأ يذكر شيخه الذي سلك به سبيل الأدب العربيّ، وأخذ بيده إلى كنوزه، ووضع لِبنات متينة في بنائه، ويتحدّث عنه حديث المُحِبّ المُعجَب؛ يقول: (ولم يكن الشيخ أستاذاً فحسب، ولكنّه كان أديباً أيضاً، ومعنى ذلك أنّه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقي الناس أو جلس للتعليم في الأزهر، فإذا خلا إلى أصدقائه وخاصّته عاش معهم عيشة الأديب، فتحدّث في حرّية مطلقة عن كلّ إنسان وعن كلّ موضوع، وروى لخاصّته من شعر القدماء ونثرهم وسيرتهم ما يثبت أنهم كانوا أحراراً مثله، يقولون في كلّ شيء وفي كلّ إنسان لا متنطعين ولا متحفظين.) وهو على منزلته تلك كان على ضيق من ذات يده، لكنّه لا يظهر من ذلك شيئاً، ولا تجري شكاة منه على لسانه، قد أخذ نفسه بالحزم، والصبر، والرضا و(التعفّف عمّا لا يليق بالعلماء).

وتبقى ذكراه حاضرة لدى طه حسين؛ يذكره، ويرجع إليه، ويشيد بمنهجه في تفهّم الشعر وتذوّقه؛ حتّى إذا مضت السنون، وابتعد الدارسون، إلّا قليلاً منهم، عن منهجه في التفهّم والتذوّق؛ وقف طه حسين في سنة 1951 يستعيد مجد أستاذه: (أستاذنا الجليل سيّد بن علي المرصفيّ أصحّ من عرفتُ بمصر فقهاً في اللغة، وأسلمهم ذوقاً في النقد، وأصدقهم رأياً في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر ولا سيّما شعر الجاهليّة وصدر الإسلام.) ويقول: إنّ (مذهب الأستاذ المرصفيّ نافع النفع كلّه إذا أُريد تكوين ملكة في الكتابة وتأليف الكلام، وتقوية الطالب في النقد وحسن الفهم لآثار العرب.)

ومن ينظر في آثار ذلك الجيل الكريم؛ الذي في طليعته طه حسين والزيّات، ير مِيسم الشيخ المرصفيّ في محبّة العربيّة في رفيع أدبها، وفي تفهّم الشعر وتذوّقه رؤيةً لا تُخطئها عين. بل إنّ منهج الشيخ محمود محمّد شاكر- وهو في طليعة الجيل الذي ولي جيل طه حسين - في قراءة الشعر واستيعاب مراميه، لتضرب جذوره في أرض سيّد بن علي المرصفيّ.

غير أنّ أيّام الشيخ المرصفيّ في الأزهر لم تكن كلّها يسراً؛ لاسيّما بعد وفاة الشيخ محمّد عبده؛ إذ رجعت المشيخة لا ترى في درس الأدب شيئاً إلى جوار دروس الفقه والأصول والعقائد، ورجعت منزلة من يدرّسه إلى الظل، ثمّ ثقلت الحياة على سيّد بن علي، واستبدّت به الشيخوخة، وأرته بعضاً من أوصابها فانكسرت ساقه، وأُضطرّ أن يلزم داره؛ لكنّه بقي على سمته القديم متذرّعاً بالصبر الجميل، غير منقطع عن درسه، بعد أن انتقلت حلقته من المسجد إلى بيته، وصار طلبته يلقونه في داره، ويسمعون منه شرح الأشعار وأخبارها.

لقد كان الشيخ المرصفيّ معْلماً جليلاً في مطالع العصر الحديث، ورسولاً أميناً للأدب القديم.
*نشرت في جريدة العالم (الالكترونية) والرابط :http://www.alaalem.com/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمات العلاف

   مقدمات العلاف خلال سنوات طويلة، تشرفتُ بكتابة مقدمات لكتب ، اصدرها كتاب ومؤرخون واساتذة اجلاء .. ومراكز بحثية رصينة صدرت تتعلق بموضوع...