الجمعة، 3 أكتوبر 2014

حكاية رجل من أوروك شعر :سامي مهدي


حكاية رجل من أوروك
شعر :سامي مهدي
حلقتُ لحيتي وجئتُ من « أوروكَ »
من أوائل الزمانْ .
لستُ من الكهّانْ ،
ولا من الملوكِ ، أو من خَدَمِ الملوكْ ،
وإنما إنسانْ
من سائرِ الناسِ « ذوي الرؤوسِ السودْ » .
تعلَّمَ الكتابَه
وحكمةَ الماضينَ والعزفَ على القيثارِ والربابَه
وظلَّ فلاّحاً فقيراً في مزارعِ الإلهْ
عُدَّتُهُ يداهْ
وزادُهُ ما كانَ يُعطى من شعيرٍ حينما يُقَسَّمُ الحصيدْ .
** *
وعندما تغيَّرَ الميزانْ
وأصبحَ الناسُ فريقينِ من السادةِ والعبيدْ ،
وصارتِ الجباهْ
تُوشَمُ ، كالأنعامِ ، والإلهْ
ينظرُ في صمتٍ ولا يُنكِرُ ما يراهْ ،
دُهِشْتُ ، واضطربتُ حتّى صارتِ الشكوكْ
تنهشُ كالديدانْ
جدرانَ قلبي ، وأنا حيرانْ ،
صرتُ أرى الأشياءْ
بغيرِ ما كنتُ أراها ، فَفَمُ السماءْ
مُخَيَّطٌ ، والأرضُ مثلُ الماءْ
رجراجةٌ ،
وجُدُرُ البيوتْ
مائلةٌ ،
وكلُّ شيءٍ شاهَ واعوَجَّ من الكعبِ إلى اللسانْ .
فلمْ أعدْ أطيقُ ثوبَ الصبرِ والسكوتْ ،
وكيفَ للإنسانْ
أن يأكلَ الحنظلَ في خبزٍ من الهوانْ
من دونِ أن يكفرَ بالكاهنِ والسلطانْ
ويقطعَ الأرضَ إلى نصفينِ من نارٍ ومن وقودْ ؟
* * *
وهكذا فررتُ واختفيتْ ،
همتُ مع الوحوشِ في البرِّ وما انثنيتْ ،
لكنني كتبتُ قبلَ أنْ أفرَّ ما رأيتْ
في رُقُمٍ دفنتُها تحتَ جدارِ البيتْ ،
وقلتُ قد تنفعُ من يأتونْ
بعدَ قرونٍ حينَ يعثرونْ
على وصايايَ . فهلْ أخطأتْ
في ما أنا كتبتُ أو أوصيتْ ؟!
فكلُّ ما ألقى هنا الآنَ وما أراهْ
هو القديمُ في إهابٍ لامعٍ جديدْ
وهذه أفعاهْ
بغيرِ جلدِها العتيقِِ جاءتْ
مثلما حلقتُ لحيتي وجئتْ !
* * *
وعندَ هذا سكتَ الراوي عن الكلامْ
كأنَّه أرادَ أنْ يرتاحَ من أوزارِ ما ينفثُ من شجونْ ،
فَعَمَّ صمتٌ بدتِ الوجوهُ فيهِ كشواهدِ القبورْ
وجالتِ الأحداقُ في الأعينِ مثلَ الخرزِ المنثورْ
كأنها تبحثُ عن جفونْ
أخرى تواري ما تنمُّ عنه من ذنوبْ .
وفجأة ندَّ عن الحضورْ
صوتٌ أجشُّ صائحاً : مجنونْ !
لا ريبَ ، هذا رجلٌ مجنونْ !
ثمَّ انبرى آخرُ يبدو أنه خطيبْ
وقالَ : يا قومُ احذروا تطفُّلَ الغريبْ
ولا تصدقوا كلامَه المنمَّقَ المريبْ
فأينَ هذا الجِلْفُ من سماحةِ الأسلافْ
حتى يكونَ قاضياً للعدلِ والإنصافْ ؟
وكيفَ ، باللهِ ، أتى من أوَّلِ العصور ؟
على بساطٍ ، أم على بعيرْ ؟!
فقهقهتْ من سَفَهٍ أفواهْ
وارتجفتْ من غضبٍ شفاهْ
لكنَّ غيرَهُ مضى يقولْ :
ألا ترونَ أنه جاسوسْ ،
تبيعُه وتشتريهِ هذه الزانيةُ الفلوسْ ؟!
وصاحَ رابعٌ له ملامحُ السيّافْ :
دعوني أقتلْه ، فهذا شرُّ ما نخافْ
منه ، إذا ما انفلتَ الزمامْ !
* * *
ولمْ يكدْ يسكتُ حتّى هبَّ آخرونْ
للذودِ عن صاحبِنا الراوي
بما أوتوا من الأذرعِ والألسنِ والعيونْ .
لكنَّه استمهلهمْ بإصبعٍ كالحجَرِ المسنونْ
وقالَ في حزمٍ وفي أناةْ :
مهلاً ، فليستْ هذه الأصواتُ والوجوهْ
غريبةً بما تواريهِ وما تفوه
بهِ ، فأنتَ كنتَ في « كيشَ » من الجباةْ
تجبي من الأراملِ الأنّاتِ والدموعْ !
وأنتَ ، هل كنتَ سوى واشٍ من الوشاةْ
يُذَلِّلُ الأعناقَ للكهّانِ والملوكْ ؟!
وأنتَ ، يا نخّاسْ ،
ألمْ تبعْ هناكَ في « أكادَ » حتى الجسدَ الوجيعْ ؟!
وأنتَ ، يا مُقَطَّعَ الأنفاسْ
ألمْ تكنْ من دونِ كلِّ الناسْ
تقتلُ في « شروباكَ » فلاّحينَ بالشُبْهاتِ والشكوكْ ؟!
وأنتَ ؟ ماذا عنكَ يا مَنْ يرتدي عباءةَ الكاهنِ في الزحامْ ؟
ألمْ تكنْ تبيعُ في « ماري » وفي « عيلامْ »
ما اختزنت « أورُ » و« أوروكُ » من الأسرارِ والأحلامْ ؟!
مهلاً إذنْ ، مهلاً ، فإني أعرفُ الجميعْ
طويلَكم هذا ، وهذا الضامرَ القصيرْ ،
وذلكَ السابحَ في جُبَّتِهِ ،
أو ذلكَ المُرَقَّطَ المجدورْ
فكلُّكمْ تُجّارُ قمْلٍ وجرادٍ تحتفي الأسواقُ والبنوكْ
بكمْ هنا ، وكلُّكم رأيتُكم ، هناكَ ، في أوروكْ ،
وإنني فررتُ منكمْ أمسِ ،
أمّا الآنْ ،
فلنْ أفرَّ في غُبارِ خوفي مثلما فررتُ في أوائلِ الزمانْ ،
بلْ أملأ الدنيا صراخاً : إنني إنسانْ ،
وإنكم نسلُ وحوشِ العالمِ السفليِّ في ما مرَّ من عصورْ !
* * *
وقبلَ أنْ يُكملَ قولَ ما يريدْ
ويعرفَ الخصمَ من المُريدْ ،
تسرَّبَ الحضورْ ،
وظلَّ وحدهُ يدورُ في الفراغِ ،
مثلَ رغوةٍ في سورةٍ تدورْ ..
ولمْ يزلْ يدورْ ..
ولمْ يزلْ يدورْ !
* * *
فهلْ بهذا انتهتِ الحكايه
( تساءَلَ السمّارُ مدهوشينَ )
أمْ ما زالتِ النهايه
بعيدةً ؟!
فقالَ شيخٌ منزوٍ في أَحَدِ الأركانْ
كأنه ثُمالةٌ في قَدَحِ الأزمانْ :
لو كانَ للقصّةِ من نهايةٍ ،
لكانتْ انتهتْ وماتتْ وَهْيَ في البدايه ،
لكنَّها حكايةُ الإنسانْ ،
حكايةُ الملاكِ والشيطانْ
وقدْ تَلَبَّساهُ منذُ كانْ ،
حكايةٌ تعيشُ ما عشنا على الأرضِ ،
ونرويها متى أرهقنا الطغيانْ
ونسألُ الأنفسَ عن حلٍّ وعن نهايه ،
أو أننا نطعنُ ، منذُ البدءِ ، في الراوي وفي الروايه !
5/5/2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معنى كلمتي (جريدة ) و(مجلة )

  معنى كلمتي ( جريدة) و(مجلة) ! - ابراهيم العلاف ومرة تحدثت عن معنى كلمة (جريدة ) وقلت ان كلمة جريدة من   (الجريد) ، و( الجريد) لغة هي :  سع...