السبت، 5 أبريل 2014

حسن مجاد في حوار عن النهضة والسقوط في الرواية العربية

حسن مجَّاد: عوامل السقوط الحضاري تكمن في بذور النهضة نفسها!

في البحث عن مفهوم الأمة وتشكُّلها في الرواية العراقية
بغداد ـ ‘القدس العربي’ ـ من صفاء دياب: يحاول الناقد العراقي حسن مجَّاد أن يعيد قراءة الرواية العراقية في ظل المتغيرات الجديدة على طرأت على مفهوم الأمة، والتجريب الروائي، على خلفية الإنتاج العراقي الغزير للرواية العراقية خلال العقد الأخير، خصوصاً ما بعد التغيير الذي حدث في العراق بعد العام 2003، والتخلخل الذي حدث في بنية المجتمع وتبدّل المواقف والمفاهيم التي كانت قارَّة خلال عقود خلت.
لكن مجَّاد يبحث في الرواية من منطلق آخر، وهو أن الرواية الأميركية، وما قبلها الروسية، كتبت على خلفية استقرار في مفهوم الأمّة، وتشكل ما يُعرف بالوعي القومي للجيل الذي أنتج تلك الرواية. في حين أن مجتمعنا العربي عموماً، والعراقي على وجه الخصوص، لم يلمس هذه الأمّة، لكنها حاول تخيلها في العالم الروائي، لتكون عالماً حلماً ومتخيلاً بعيداً عن ارض الواقع.
عن الرواية العراقية، والمتخيل الذي صنعها، ومفاهيم التجريب وارتباطها بالواقع العراقي، كان لنا هذا الحوار:
* كيف نفهم العلاقة بين الرواية وبناء الدولة؟
* تكون الذاكرة التاريخية منتجة لمحاولة فهم الماضي، إذ إن أية محاولة لإعادة بناء الأمة سردياً تقوم على عناصر مشتركة غائرة في أعماق ماضي الجماعة وكاشفة عن مصائرها وتحديات قوى الاستبداد في محو هويتها أو شطبها من الذاكرة. لهذا فإن مجتمعات ما قبل الدولة، تلك التي تعتمد في نشاطها الاقتصادي على وسائل بدائية في السيطرة على مصادر الطبيعة ومواردها أو حتى رؤية أسطورية لمآل الجماعة وانحدار سلالتها أنتجت السرد الرعوي، والسرد التشردي، وهي سرديات تقع على هامش الأدب الرسمي الذي يعبر عن طبقة النبلاء. من هنا فإن النبلاء والأشراف عملوا على احتكار سلطة الحقيقة التاريخية وأكسبوا منطقتها شيئاً من الوجاهة.
* لكن كيف صُنِع البطل في المتخيل الروائي؟
* إن تمرد القاع الاجتماعي وصعود الطبقة البرجوازية بعد الإرث السرفانتيسي الذي كان مساوقاً لتفكك الحقيقة المطلقة بفعل رؤية ديكارت التي أسست للفرد مركزاً للرؤية جعلت من التخييل الروائي متفوقاً على اللاوعي السياسي ليصنع الأمة والجماعة، ومن ثمَّ ليصنع البطل المتخيل في مواجهة رواسب عقله الباطن التي تشكل عقد المواجهة أو الانسجام، ومن ذلك شخصية ‘رجب’ في رواية شرق المتوسط وتناولها لفكرة البطل الثوري ومن ثمَّ كريم الناصري في رواية ‘الوشم’ الذي يخلق أنموذج البطل المتخاذل. هذه النماذج الرمزية لفئة المثقف وعلاقته بالسطة، أنتجت في عصر ازدهار الآيديولوجيا لكشف خواء اللوبي الآيديولوجي بحسب تعبير هيجل في ‘الوعي الشقي’.
* من خلال قراءتك للرواية العراقية، كيف نفهم تشكُّل مفهوم الأمة فيها؟
* قبل كلّ شيء علينا أن نحدد أنماط العلاقة بين الأمة والرواية وفاعلية التمثيل السرديّ للأطروحة السياسية في الرواية العراقية وهي تحدد بشكل بيِّن في ‘الرواية والأرض’ لأن الأمة تقوم على وعي بالتاريخ والأرض واللغة لتكوين هوية مشتركة، والنمط الآخر ‘الرواية والمنفى’ وتصدّع الأوطان المتخيلة. في النمط الأوّل نجد شيوع التحول المركزيّ من الريف إلى المدينة في عصر ازدهار الآيديولوجيا العراقيّ، وفي النمط الثاني نجدُ تجلياته في الحرب الأهلية العراقية. وتشكل أطروحة هومي بابا في موقع الثقافة، وإدوارد سعيد الأوطان المتخيلة وإيهاب حسن، وبول ريكور في التاريخانية الجديدة، وكتاب بارترك بارندر التأسيسيّ الرواية والأمة الذي قام بترجمته محمد عصفور مرتكزاً في إعادة النظر بسرديات ما بعد الكولونيالية، ولا ننسى المحاولات المبكرة لكتاب رضوى عاشور المهم في دراستها للرواية الافريقية في ‘التابع ينهض’.
* وما المحددات النقدية الني نفهم من خلال رؤيتك لمفهوم الرواية؟
* لعلنا بحاجة إلى إعادة النظر بتكوين المفهوم النقديّ للرواية التي أشيع في ظل المركزية الأوربيّة وقُّدم تأصيلاً وتأثيلاً مع هموم البرجوازية الصغيرة الصاعدة التي حملت مشروع تكوين الأمة هدفاً وحلماً كبيراً ضمن مشروعها التحديثي، هو مفهوم تفسيريّ لأصول النشأة والرؤية حدد مسارها أقطاب الفكر السوسيولوجي وقوفاً عند هيغل ومروراً بلوكاتش وعبوراً نحو بيير زيما وغولدمان، تفسير ينطويّ على نزعة مركزية في لا بوطيقية متماسكة لهذا الفن الناشئ المنسلخ عن الرعويات والملحمة مثلاً، والمعبر عن منطق المدن وحيواتها وتصدعها أيضاً على حد سواء.
ومن أولى مقتضيات إعادة النظر بالمفهوم الأوربيّ لنظرية الرواية أو بويطيقيا الرواية، هو ما يقوم على استكشاف الشكل والبنى والوظائف بنيوياً وهي على الرغم من أهميتها إلا أنها لا تقدّم لنا تبصراً وفهماً لقيمة الرواية في الحياة، بل تحول الفن إلى لعبة شكلية كان قد تنبه إلى مخاطرها الأستاذ الدكتور عليّ جواد الطاهر مبكراً، والفن حين يفرغ من محتواه الفكري وقيمه ودلالته يصبح الواقع مختنقاً وبليداً ومن ثم ينعدم المعنى!، ومن هنا فإنَّ علينا أن نزيح قليلاً إلى الوراء الإرث النقدي المعد سلفاً ونقترب من نبض النص وذاكرته، وأعني بنبض النصوص حيويته وإيقاعه الداخلي وتماسكه وأعني بذاكرته تلك القدرة على استثمار نصوص أخرى تعمق حدة الدلالة وتستقطب أبعادها الفكرية في التحليل الأدبيّ والمعاينة النقدية تلك التي تضع النصوص في مواجهة الواقع لا على نحو مطابقة أو تماهٍ، بل على نحو استعادة تفسير الواقع المخبوء سياسياً واجتماعياً والكشف التجربة الكلية والرؤية التعبيرية.
* وماذا بخصوص ما يُعرف بـ’الرواية السياسية’، أو الطروحات السياسية في الرواية؟
* على الرغم من شيوع ما يعرف بــ( الرواية السياسيّة) في الآداب العالمية، وإن أردنا أن نمضي مجازفة في الرجوع إلى الوراء لنستذكر مرويات ابن المقفع في كليلة ودمنة وهو تمثيل بعيد عن الفن الروائيّ بطبيعة الحال، لكن ما نود أن نؤكده هو أن السرد وتمثيلاته السياسية حاضرة بما تفرزه من تبدلات في نوع العلاقة بالسلطة أو الشرائح الاجتماعية؛ إلا أن الرواية السياسية هي وليد الاتجاه الواقعيّ، ولعلنا نستذكر كتاب إرفنج هاو: السياسية والرواية. المهم في هذا الصدد هو ما صدر منتصف الخمسينيات، وكانت اكتشافات باخ في كتابه المهم (المحاكاة).
إنَّ التجربة الروائيّة المعاصرة قد قامت على تفكيك النكتة السياسيّة الساخرة أكثر من قيامها على البيانات والمنشورات النضاليّة التي تأسست عليها تجربة الرواية السياسيّة في حقبة ازدهار الآيديولوجيا والآيديولوجيا المضادة في العراق. ولعلنا في استذكار عبد الرزاق المطلبيّ وعبد الرحمن مجيد الربيعيّ وفاضل العزاوي، وفؤاد التكرلي، ما يؤشر إلى هذا المنحى الذي ظل فيه المثقف المهموم بالأفكار مرتكزاً في تكوين البطل المقاوم أو المهزوم على حد سواء، فمع انهيار النظام العراقيّ ودخول الأميركان إلى قلب العاصمة العراقيّة، والإعصار الكبير الذي أطال متحف الذاكرة والمعابد والمساجد، انكشف زيف العاصمة المبنيّة على أسس تاريخية وحضارية، وهو في جزء منه مبني على قصص وسرديات شيّدت ماضي المدينة وحاضرها وكيانها من تماسك عضوي، ليظهر إلى المشهد المثقف المتواطئ مع طائفته وتفسخ العلاقات عبر القتل والتشريد.
* اشتغلت بعض الروايات العراقية على المدينة والمخيال الذي أعاد صناعتها، ما المدينة التي حلم بها الروائيون العراقيون؟
* ظلت بغداد في المخيال السياسيّ وكأنها نسيج اجتماعي يدفع بها التاريخ إلى الأمام ليحقق نضال جماهيرها ونخبها، وظلت ببيئاتها المركزيّة وبالعائدين إليها من الجنوب مكاناً مقاوماً وطارداً يذوب فيه الفرد لصالح هذا الأخطبوط الاجتماعي الكبير الذي شكّل هويته المخيال السياسي المتجذر في صلة الهوية بتاريخها المتعالي عن لحظة التناقض المخبوء تحت القاع.
ومن هنا نلمح الحساسيّة السرديّة وتغير المنظور الفكريّ في تشييد الأطروحة الروائيّة، بمعنى أن الرواية وسيلة لإنتاج المعرفة التفسيرية لواقع له صيرورته المغايرة اجتماعيا وسياسيّاً، هو واقع الحرب الأهلية الطائفية العراقيّة، وما رافق ذلك من تصفيات جسدية ومحو للذاكرة وإشاعة للفوضى والاضطراب، وهذا واضح في بعض الروايات العراقية مثل ‘الحفيدة الأميركية’ لأنعام كجه جي ,’سيدات زحل’ للطفية الدليمي و’يا مريم’ لسنان أنطون و’فرانكشتاين في بغداد’ لأحمد سعداوي و’حارس التبغ’ لعلي بدر و’بغداد مارلبورو’ لنجم والي وغيرها من الروايات. هذا التبدل في الحساسيّة الروائيّة هو نتاج انهيار الأفكار الكبرى واندحار السرديات التفسيريّة لحركية الأفراد ومصائر الجماعات بعد تراجع الفرد ووقعه تحت كوابيسه، وبعد تخلخل البنى الاجتماعي للنخب البرناسيّة والفئات الهشة التي تشكلت في مدينة العباسيين في عصرها الحديث من قوميين ويساريين ورجعيين وبروليتارية رثة ودكتاتوريين.
* وما المحاولات التجريبية التي اشتغلت عليها الرواية العراقية؟
* الرواية العراقيّة المعاصرة وهو تواجه العائق الاجتماعي بما يفرزه من أخلاقيات وقيم سائدة اتجهت في تسعينيات القرن الماضي نحو فذلكة التجريب السرديّ وهربت نحو تخوم الفرد وهواجسه وأحلامه، ما عدا روايات قليلة استطاعت أن تقدم لنا رؤية للحياة بألفتها وبشاعتها وهي تقوم على التاريخ بوصفه تجربة حيّة وليس على مدونات نرمم بها الماضي، في سبيل تغييب القمع السياسي والاستبداد السلطوي وترمم نثار الذاكرة الاجتماعية لمجتمع ظل جانبه الآخر يمور بالتوتر والتصارع الإثني والعرقي.
تُعدُّ التجربة الروائية العراقيّة حديثة النشأة والتكوين، وهي بهذا الوصف بقيت تحت خيمة الاستعارات الكبرى للمؤثر الأوربيّ بشكل مركزيّ ومن ثم لفاعلية حضور الأدب الروسيّ بنصوصه المؤثرة وبفعل تيارات فلسفيّة واتجاهات فكريّة كانت تمثل صراعاً للرؤى تقصى كل واحدة منها الوجه الآخر وتعمل على تعريته؛ ولهذا بقيت الرواية العراقيّة تتعثر بين النبرة الإصلاحية أو الإسراف في اللعب الشكليّ. نستثني من ذلك نماذج كانت قد شكَّلت؛ في سياقات التحولات السياسية العراقية، رؤى أفراد حالمين ومصائر جماعات بروليتارية. ومن هنا بدت فكرة اقتباسات المحتوى الفكري وانفصاله عن صيرورة الواقع الاجتماعي وتطور الوعي السياسيّ سواء على مستوى فئة الانتلجنسيا العراقيّة التي ظلت أسيرة للعبة الحلم البرناسيّ والوعي الشقي في الفهم والتجاوز أو على مستوى الشريحة الاجتماعيّة التي تشكل الخلفية التي تضيء به الرواية تمثلاً لحكاية زقاق أو بيوتات أو أسرة أو جماعات، ومع ازدهار عصر الآيديولوجيا منذ أربعينيات القرن العراقيّ حتى أفولها، قدّمت الرواية العربيّة في العراق نماذج رمزية متعالية عن منطقها الحيّ لعلنا نستذكر معاً عبد الرحمن مجيد الربيعيّ باصطناع بطولة المنتميّ في ‘القمر والأسوار’ و’الأنهار’، أو البطل المضاد عند فاضل العزاويّ الذي بقي تحت هيمنة المؤثر الوجوديّ وبنيت أزمته بناء تلفيقيا استعارياً عبر المزج بين كوابيس كافكا وهرطقاته وأحلام كامو ونزواته وتمرده.
* لكن، كيف أثرت النزعة التجريبية على بنية الرواية العراقية؟
* مسخت النزعة التجريبية الشكل والمحتوى وظلت أسيرة نماذج عليا، ساعدها على ذلك مبررات قلق مفتعل ورؤية غائمة وبصيرة هشة للعلاقة الجدلية بين الفن كرؤية وأداء، ونستذكر مثالاً على ذلك ‘مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة’ و’الديناصور الأخير’ لفاضل العزاوي، في حين شكل التيار القومي عند عبد الرحمن مجيد الربيعيّ مرتكزاً في الكتابة الروائية، وقدمت نماذج معبئة بصور نمطية للمناضل المنبثق من رحم الجماهير في ‘القمر والأسوار و’الأنهار’، ومن هنا لم تكن الأمة موضوعاً للرواية البتة لأنها لم تعِ صيرورتها بعد وتركتها تعيش في مطابخ التوجه الآيديولوجي والعنف السلطوي والإكراهات الاجتماعية؛ لأن شرائط النهضة وأحلامها الطوباوية قد ضلت الطريق نحو صدى الصوت والصوت الآخر، مما جعل التجربة الروائية وليدة أفكار جاهزة ومعدة مسبقاً وأحادية الرؤى على الرغم من مظهرها البوليفوني. وإن كانت هزيمة حزيران قد شكلت منعطفاً كبيراً في إعادة السؤال العربيّ والبحث عن الهوية في ظل الاستبداد السياسيّ والعجز الاقتصاديّ فإن شيوع النزعة الفردانية والنرجسيّة والتمركز حول الذات قد جعل من الأفق الروائيّ منغلقاً على ذاته يقف على أطلال الذاكرة ونشيد المراثي دون أدنى قدرة في التفكير على إحداث فارق جوهريّ في المعادلة الصعبة تلك التي تتحدد بشكل خاص في أنَّ عوامل السقوط الحضاري تكمن في بذور النهضة نفسها، غُيبت تلك الرؤية من أجل إشاعة الفجائعيات وكُرِّست فيما بعد جمالياً بدعاوى التداخل الإجناسيّ الذي سمح للرواية أن تقترب من روح القصيدة، وهذا الفعل الجمالي وإن كان يتكئ على معطى نظري وتصورات قبلية، إلا أنه يخفي نسق الاضطراب في الرؤية لصالح خلق عالم بديل ينسى فيه المثقف؛ روائياً، مشاكله ويتناسى بها حقيقته وزيفه لصالح تجميل الصورة بشكل آخر يبرر منطق سردي يعيد به الإنسان توازنه مع العالم والمحيط.
*http://www.alquds.co.uk/?p=151445

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ويومكم مبارك ورمضانكم كريم

  ويومكم مبارك ورمضانكم كريم ونعود لنتواصل مع اليوم الجديد ............الجمعة 29-3-2024 ............جمعتكم مباركة واهلا بالاحبة والصورة من د...